(هذا المقال كتب فى الأساس كتمهيد لتراجم الأئمة : السيوطى - المتقى الهندى - المناوى - النبهانى المثبتة فى مقدمة جامع الأحاديث)
كلمات أحب أن أسجلها فى هذا التمهيد قبل أن تستغرقنا تلك الأوراق المقبلة التى سنحيا فيها مع سِيَر أربعة علماء من كبار أئمتنا ساهموا أبلغ المساهمة فى بناء حضارتنا الإسلامية ، وكانوا من روافد نقل هذا الدين نقيا طاهرا كما تلقوه من شيوخهم عن شيوخهم وهكذا إلى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عنه صلى الله عليه وسلم بنفسى هو وبأبى وأمى ، ولينتقل لنا ديننا الحنيف عبر تلاميذهم وآثارهم نقيا طاهرا كما تلقيناه ، ولنحمل أمانة الحفاظ عليه ونقله لمن بعدنا ، كما حُمِّلْناه ، ومن منا أو منهم يستطيع أن يتحمل إثم التبديل والكتمان ، أو الزيادة والنقصان .
لقد حاول مئات العلماء أن يستقرئوا شريعة الإسلام وفقهها ، ونجح عشرات منهم فى ذلك حتى عُمِلَ بطريقتهم فى الفقه عقودا أو قرونا ، ثم اندمج بعض المذاهب فى بعض من خلال الجدل العلمى طيلة عقود ، ليبقى مذهب من اتسعت دائرةُ استقرائه للشريعة ، واستطاع أن يقدم منهج فقهى أكمل ، وليذهب من عجز منهجه أو قصر .
وما حدث فى الفقه (مرتبة الإسلام) حدث فى العقيدة (مرتبة الإيمان) ، فسعى علماء أهل السنة لاستقراء عقيدتهم وتحليلها ، وبيان منهجها وقواعدها ، فمنهم من نجح فى الوصول إلى هذه الغاية ومنهم من قصر ، ويأتى على رأس الناجحين فى استقراء عقيدة أهل السنة وتقعيدها وتقريرها الإمامان : أبو الحسن الأشعرى (ت 324 هـ) ، وأبو منصور الماتريدى (ت333 هـ) ، واللذان لا يعدو دورهما فى العقيدة – ودور غيرهما من أئمة علماء العقيدة من أهل السنة – دور أئمة الفقه كأبى حنيفة ومالك والشافعى وأحمد رحمة الله على الجميع .
فجهد الأشعرى والماتريدى لا يعدو تقرير عقيدة أهل السنة بأساليب عقلية ونقلية وتقعيدها وتنظيرها وتدوينها بعد أن لم تكن مدونة شأنها شأن علوم الإسلام كافة .
ولكن يأبى أصحاب الدعوات المحدثة المبتدعة إلا أن يصوروا للعامة – زورا وبهتانا – أن الأشعرى والماتريدى من أصحاب الفرق المخالفة لأهل السنة والجماعة ، ويحشرونهما حشرا فى مؤلفاتهم عن الفرق المخالفة .
والذى يخفى على كثير من العامة أن ذلك الصنيع يؤدى حتما إلى إخراج علماء الأمة كافة من أهل السنة والجماعة ، لأنهم جميعا درسوا عقيدة أهل السنة واعتقدوها بناء على طريقة الأشعرى أو الماتريدى ، وليصبح أهل السنة فقط هم من رضى عنهم أصحاب تلك الدعوات ، فغروا الناس بهم ، وأرهبوهم تارة ورغبوهم تارة . ومن ذا يحب أن يتهم ببدعة أو مخالفة فى العقيدة ، ولهذا سَلَّم لهم كثير من العامة فرارا من التهمة ، وظنا فى صحة تلك المزاعم ، ومن هنا شاعت تلك الدعوة بين كثير من العامة لا لصوابها ولا لكونها أحيت السنة ، ولكن لإرهابها الناس بالتهم الباطلة ، وإغرائهم بالأموال الطائلة ، والسعى الحثيث وراء نشر الكتيبات والمؤلفات حسب دعوتهم وتوزيعها بالمجان على ملايين المسلمين .
هذا ما كان من حال الفقه والعقيدة (مرتبتى الإسلام والإيمان) ، وهو نفسه الحال الذى جرى فى التصوف (مرتبة الإحسان) ، فكان هناك مئات من المجتهدين فى استقراء طرق الشرع فى تهذيب النفس ، وقد وقع لهذه الطرق فى تهذيب النفس ما وقع للمذاهب الفقهية من اندماج بعضها واختفاء بعضها .
وكما سمَّوا العلم الذى يتناول مرتبة الإسلام فقها ، فقد سموا العلم الذى يتناول مرتبة الإيمان عقيدة ، وسموا العلم الذى يتناول مرتبة الإحسان تصوفا .
وكما سموا طرق المجتهدين فى الفقه مذاهب ، فيقولون : مذهب الشافعى ومذهب مالك ، فقد سموا سبل المجتهدين فى العقيدة مذهبا وطريقة ، فيقولون : طريقة الأشعرى ومذهبه ، وسموا مذاهب المجتهدين فى التصوف طريقة ، فيقولون : طريقة أبى الحسن الشاذلى ، وطريقة شاه نقشبند . ونسبوا كل طريقة ومذهب إلى أول من قررها وقعدها بناء على استقراء الشرع الحنيف ، لا أنهم اخترعوا ذلك أو ابتدعوه أو زادوه على الدين المحفوظ ، مثلهم فى نسبة ذلك إليهم مثل نسبة القراءات القرآنية إلى أئمتها كقراءة حفص وقراءة نافع … إلخ ، فنسبة القراءة إليهم نسبة اشتهار ، لا نسبة وضع وتأسيس ، وإلا فالقراءة سنة متبعة عن النبى صلى الله عليه وسلم .
ولهذا ستجد المذاهب والطرق جميعا ترجع بأسانيدها إلى الصحابة عن النبى صلى الله عليه وسلم ، فمذهب الإمام أبى حنيفة يرجع فى مجمله إلى مدرسة سيدنا عبد الله بن مسعود ، ولهذا تكثر موافقته له ، ومذهب الإمام مالك يرجع فى مجمله إلى مدرسة سيدنا عبد الله بن عمر بن الخطاب ، ومذهب الإمام الشافعى يرجع فى مجمله إلى مدرسة سيدنا عبد الله بن عباس ، وطريقة الشاذلى ترجع بأسانيدها إلى جملة من الصحابة على رأسهم سيدنا على بن أبى طالب ، وطريقة شاه نقشبند ترجع إلى جملة من الصحابة أيضا على رأسهم سيدنا أبو بكر الصديق رضى الله عن الجميع ، وهكذا فى سائر مذاهب أهل السنة وطرقها .
وكما اجتهد المجتهدون فى الفقه فمنهم من أصاب ومنهم من أخطأ ، فقد اجتهد المجتهدون فى العقيدة ، واجتهد المجتهدون فى التصوف ، فأصاب من أصاب وأخطأ من أخطأ ، وكما ادعى الفقه من ليس بفقيه ليشرف بالانتساب إليه ، فقد ادعى العلم بالعقيدة من ليس بمتكلم ، وادعى التصوف من ليس بصوفى ، ووقع ذلك فى علوم الإسلام كافة فهناك من انتسب للعلم بالسنة وحفْظ الحديث الشريف وليس كذلك ، وهناك من ادّعى العلم بالعربية وهو جاهل بها ، فهل ذُمَّ علم منها بسبب كثرة ادعاء المدعون له ، فلولا شرف الانتساب لعلم منها ما ادعاه المدعون ، وكلما ازداد علم منها شرفا كلما ازداد المدعون له عددا .
ولكن ما هو مسمى التصوف عندهم ؟ وما غرضه ؟
مسمى التصوف عندهم هو عرض أمر المرء كله فى صغيره وكبيره ، ظاهره وباطنه ، دقيقه وجليله ، على الكتاب والسنة ، بحيث لا يقدم عليه إلا عن بينة من دين الله ، مسمى التصوف عندهم هو {قل إن صلاتى ونسكى ومحياى ومماتى لله رب العالمين لا شريك له} ، مسمى التصوف عندهم إدامة الحضور بين يدى الله ((أن تعبد الله كأنك تراه)) فلا تُخْرج نَفَسا إلا وأنت مراقب لله فيه هل خرج من صدرك فيما يرضى ربك ، هذا هو مسمى التصوف عندهم ، وهو يحتاج إلى فهم عميق وعلم واسع بالكتاب والسنة ، إذ غرض التصوف عندهم هو العمل بالكتاب والسنة لا غير ، فهل تراه يختلف أحد على هذا المسمى أو الغرض منه .
فإذا اتفقنا على المسميات والمعانى يصبح من الحماقة الاختلاف على الأسماء ، فسمه تصوفا ، سمه سلوكا ، سمه تزكية ، سمه إحسانا ، سمه علم نفس ، سمه ما شئت .
ويصبح من الحماقة أيضا جعل ما يصدر عن الطغام والجهال هو المعيار فى قبول ذلك المسمى الشريف أو رفضه ، ومن الحماقة أيضا رفض المبادئ أو القيم المثلى لعدم وجود من يعمل بها ، أو الحكم عليها بسلوك العوام من أهلها .
وإلا فهل ترضى أن يحكم على الإسلام بعظمته وشموخه وكماله وأنه لسعادة البشر بأنه ليس كذلك لأننا أتعس الأمم الآن وأضعفها .
ولنقلها صريحة : أين هو من علماء الأمة من ليس له مذهب فقهى وعقيدى وصوفى ؟ ثم ما هو الغالب على الجماهير المجمهرة منهم ، إن الغالب عليهم هو ما سنجد السيوطى والمتقى الهندى والمناوى والنبهانى عليه ، ويعجبنى أن هؤلاء الأربعة ليسوا من بلد واحد فيقال طريقة أهل بلد واحد فما بال سائر البلدان ، فمن هؤلاء الأربعة مصريان أقاما بمصر (السيوطى – المناوى) ، وهندى أقام بمكة (المتقى الهندى) ، وشامى (النبهانى) ، ولو فتشت سائر بلدان الإسلام لوجدتهم جميعا على ذات النهج .
ولهذا لن تعجب إذا وجدت أن هؤلاء الأربعة الذين كانوا من خدمة السنة النبوية الشريفة ، والذين نمهد بهذا التمهيد بين يدى تراجمهم ، لن تعجب إذا وجدت شأنهم شأن غيرهم من كافة العلماء فى كافة الأمصار قد انتسبوا لمذهب فقهى من المذاهب الأربعة التى استقر عليها الأمر ، وجميعهم من أهل السنة على طريقة الأشعرى أو الماتريدى ، وانتسبوا جميعا للتصوف تعلقا وسلوكا وتأليفا ، تلك المذاهب والطرق جميعا التى بنيت وشيدت فى أصولها وطريقة استثمار فروعها على الكتاب والسنة ، ولن تعجب إذا وجدت أن العقل الجمعى الذى تشكل لدى علماء أمتنا هو عقل مبنى على الكتاب والسنة فى أسسه ، وقيمه ، ومناهجه ، وسلوكه ، وحركته الفكرية ، وإدراكه للواقع ، وأدواته لإعادة صياغة ذلك الواقع ليكون أكثر اقترابا من مراد الله فيه .
ولنذكر هنا نموذجين يمسان حياتنا المعاصرة لكثرة الشغب حولهما ، لنرى كيف كان أئمتنا وعلماؤنا يقررون قواعدهم ومذاهبهم ، وكيف كانوا يفهمون الكتاب والسنة بناء على فهم الصحابة أنفسهم له : النموذج الأول معنى البدعة ، والنموذج الثانى : قاعدة (التزام الأدب مقدم على امتثال الأمر) . وسنرى من خلال هذين النموذجين أن الجماهير المجمهرة من العلماء لم يخرجوا فيهما عن الكتاب والسنة قيد أنملة ، وإن زعم من زعم من متمشيخة هذا العصر خلاف ذلك .
النموذج الأول : معنى البدعة ، ومفهوم البدعة هو أحد المفاهيم المحورية ، والذى يفصل أولا بين ما هو مشروع وما هو غير مشروع ، ويفصل ثانيا بين العالم الحقيقى ومدعى العلم ، ولأهمية هذا المفهوم وخطورته أصبح من أكثر المفاهيم التى أسىء استخدامها هو ومفهوم الاجتهاد ، وتحت رايتهما تحولت السنة إلى بدعة ، والبدعة إلى سنة ، وترك كثير من العلم الصحيح والثابت ، وذم سلف هذه الأمة وأئمتها ، وما كان ذلك إلا ليصدق النبى صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به من علامات آخر الزمان : من إعجاب كل امرئ برأيه ، وأن تصبح السنة بدعة ، والبدعة سنة ، وأن يلعن آخر هذه الأمة أولها ، وألا يتبع العالم ، ولا يسمع للحليم ، وكل هذا قد رأيناه مكتوبا فى الكتب والصحف ، وسمعناه فى الإذاعات والفضائيات وعم به البلاء ، وسرى إلى أبعد الناس عن العلم وصار الكل يريد أن يفتى بنفسه ، وسمعت بنفسى أكثر من مرة ممن لم ير بعينه صحيح البخارى قط ، ولم يشتغل بالعلم قط ومع هذا يقول : ((إن فى صحيح البخارى أحاديث ضعيفة)) ، فمن أضعنا من قلبه هيبة الصحيح لماذا نبكى عليه إذا فقد الثقة بالسنة كلها ، ومن أضعنا من قلبه هيبة الأئمة الأربعة ومذاهبهم فلا تأس عليه إن ترك الشريعة برمتها وراء ظهره . ثم يصرخ متمشيخو العصر بأن الناس باتوا لا يسمعون لأحد ، فأنتم أخرجتموهم من اتباع أكابر الأئمة الذين استقرت الثقة بهم على مدى قرون ، فهدمتم تلك الثقة بأيديكم ، فتريدون أن يتبعوكم ، لا والله .
ومن هنا كان مفهوم البدعة مفهوما خطيرا للغاية ، وأدى العبث به إلى زلزلة الناس فى كثير مما جرت عليه أمورهم مما كان مبنيا على علم صحيح ، وإن غاب أصله عنهم ، وكانت مجتمعات المسلمين مبنية بناء راسخا فى قيمها وأخلاقها وأعمالها على الكتاب والسنة وما استنبطه العلماء منهما ، وكان ذلك ساريا سريان الدماء بالعروق فى عادات الناس وتقاليدهم وثقافتهم ، فأتت الدعوات المستحدثة لتهز ذلك تحت دعوى التنقية والتجديد ونبذ التقليد وترك البدع – وهى كلمات حق أريد بها باطل – ولتضرب حضارتنا بأيدينا فى أسسها ، ثم هبطت الحضارة الغربية علينا لتطبق على بناء حضارى كاد يشيخ ، ولم تعد تحمله أسسه التى بنى عليها ، ولا استطاع مجددوه المزعومون أن يبدلوه أسسا أقوى أو أثبت مما كان عليها قائما .
على أن أئمة المذاهب الأربعة بنوا مفهومهم للبدعة على استقراء تام للكتاب والسنة ، وهكذا كانوا يفعلون فى كل اختياراتهم العلمية .
فقد اتفق العلماء المعتبرون من عهد الصحابة فمن بعدهم على أن من اخترع فى الدين ما لا يشهد له أصل من أصوله فلا يلتفت إليه عملا بقوله صلى الله عليه وسلم ((من أحدث فى أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) ([1]) ، فإذا شهد أصل عام له ، لم يكن ببدعة ، وإن لم يرد فيه نص بخصوصه ، والوقائع من عهد النبى صلى الله عليه وسلم والصحابة متواترة على ذلك ، فمن ذلك حديث ((قد سن لكم معاذ فاقتدوا به إذا جاء أحدكم وقد سبق بشىء من الصلاة فليصل مع الإمام بصلاته فإذا فرغ الإمام فليقض ما سبق به)) ، فلو كان اجتهاد معاذ باطلا لأنكره عليه صلى الله عليه وسلم ، وكذلك زيادة التثويب فى أذان فجر كان باجتهاد بلال ، فأقره النبى صلى الله عليه وسلم وقال له : ((ما أحسن هذا يا بلال اجعله فى أذانك)) ([2]) ، وكذلك الدعاء بعد الرفع من الركوع كان من بعض الصحابة فأقره صلى الله عليه وسلم وقال له : ((لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها أيهم يكتبها أول)) ، وما أنكر عليه أنه زاد دعاء فى الصلاة ، لأن الأصل العام يشهد باستحباب الدعاء فى الصلاة .
فهذه الأحاديث القولية وغيرها من الأحاديث والوقائع الواردة والتى خرجها الإمام السيوطى تصل إلى حد التواتر المعنوى ، والتى قررت أن كل ما شهد له أصل عام فى الشرع فليس ببدعة وإن لم يفعله النبى صلى الله عليه وسلم ، وأن هناك فرقا بين ما ورد عن النبى صلى الله عليه وسلم تركه ، وبين ما لم يفعله أصلا فينظر فيه حسب أصول الشرع وفروعه ، ومن هنا قال الإمام الشافعى وكفى به فهما واستقراء للكتاب والسنة : ((البدعة بدعتان بدعة محمودة وبدعة مذمومة ، فما وافق السنة فهو محمود وما خالف السنة فهو مذموم)) ، وقال أيضا : ((المحدثات : ضربان ما أحدث يخالف كتابا أو سنة أو أثرا أو إجماعا فهذه بدعة الضلال ، وما أحدث من الخير لا يخالف شيئا من ذلك فهذه محدثة غير مذمومة)) . وقال الإمام المجتهد العز ابن عبد السلام : ((لله أحكام تحدث عند حدوث أسباب لم تكن موجودة فى الصدر الأول)) ، وقال الإمام النووى : ((قوله صلى الله عليه وسلم (وكل بدعة ضلالة) هذا عام مخصوص ، والمراد غالب البدع ، قال أهل اللغة : هى كل شيء عمل على غير مثال سابق . قال العلماء : البدعة خمسة أقسام واجبة ومندوبة ومحرمة ومكروهة ومباحة ، فمن الواجبة : نظم أدلة المتكلمين للرد على الملاحدة والمبتدعين وشبه ذلك ، ومن المندوبة : تصنيف كتب العلم وبناء المدارس والربط وغير ذلك ، ومن المباح : التبسط فى ألوان الأطعمة وغير ذلك ، والحرام والمكروه ظاهران . فإذا عرف ما ذكرته عُلِمَ أن الحديث من العام المخصوص ، وكذا ما أشبهه من الأحاديث الواردة ، ويؤيد ما قلناه قول عمر بن الخطاب رضى الله عنه فى التراويح : (نعمت البدعة) ، ولا يمنع من كون الحديث عاما مخصوصا قوله : (كل بدعة) مؤكدا بكل ، بل يدخله التخصيص مع ذلك كقوله تعالى {تدمر كل شيء} . . .)) . وقال الحافظ : ((التحقيق أن البدعة إن كانت مما تندرج تحت مستحسن فى الشرع فهى حسنة ، وإن كانت مما تندرج تحت مستقبح فى الشرع فهى مستقبحة وإلا فهى من قسم المباح وقد تنقسم إلى الأحكام الخمسة))([3]) .
النموذج الثانى : أخرج البخارى ومسلم وغيرهما على ما سيأتى فى مسند سهل بن سعد : ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بنى عمرو بن عوف ليصلح بينهم فحانت الصلاة فجاء المؤذن إلى أبى بكر فقال أتصلى للناس فأقيم ؟ قال نعم فصلى أبو بكر فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس فى الصلاة فتخلص حتى وقف فى الصف فصفق الناس وكان أبو بكر لا يلتفت فى صلاته فلما أكثر الناس التصفيق التفت فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن أمكث مكانك . فرفع أبو بكر رضى الله عنه يديه فحمد الله على ما أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك ، ثم استأخر أبو بكر حتى استوى فى الصف وتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى فلما انصرف قال : يا أبا بكر ما منعك أن تثبت إذ أمرتك . فقال أبو بكر ما كان لابن أبى قحافة أن يصلى بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم)) ، فقد استدل السادة الشافعية بصنيع أبى بكر وإقرار النبى صلى الله عليه وسلم له على تقرير قاعدة مهمة هى : ((التزام الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدم على امتثال الأمر)) ، والأحاديث فى ذلك متضافرة – ربما تصل إلى حد التواتر المعنوى - منها قصة صلح الحديبية وفيها ما يأتى فى مسند سلمة بن الأكوع تحت طرف ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عثمان بن عفان إلى أهل مكة ، فأجاره أبان بن سعيد بن العاص فحمله على سرجه وردفه حتى قدم به مكة ، فقال له : يا ابن عم أراك متخشعا ، اسبل كما يسبل قومك قال : هكذا يأتزر صاحبنا إلى أنصاف ساقيه ، قال : يا ابن عم طف بالبيت ، قال : إنا لا نصنع شيئا حتى يصنعه صاحبنا فنتبع أثره)) ، فترك سيدنا عثمان بن عفان طواف القدوم مع كونه مأمورا به التزاما للأدب معه صلى الله عليه وسلم أن يطوف قبله . وفى رواية لابن عساكر عن عروة بن الزبير – تأتى بتمامها فى مراسيله - : ((وقال المسلمون وهم بالحديبية قبل أن يرجع عثمان : خلص عثمان من بيننا إلى البيت فطاف به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أظنه طاف بالبيت ونحن محصورون . قالوا : وما يمنعه يا رسول الله وقد خلص . قال : ذاك ظنى به أنه لا يطوف بالكعبة حتى يطوف معنا فرجع إليهم عثمان . فقال المسلمون : اشتفيت يا أبا عبد الله من الطواف . فقال عثمان : بئس ما ظننتم بى فوالذى نفسى بيده لو مكثت بها مقيما سنة ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقيم بالحديبية ما طفت بها حتى يطوف بها رسول الله صلى الله عليه وسلم)) ، وفى صلح الحديبية أيضا عند مسلم وغيره من حديث البراء على ما سيأتى فى مسنده : ((لما حُصر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البيت صالحه أهل مكة . . .)) وفيه : ((فقال صلى الله عليه وسلم لعلىٍّ : اكتب الشرط بيننا : بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله ، فقال المشركون : لو نعلم أنك رسول الله تابعناك ، ولكن اكتب محمد بن عبد الله ، فأمر عليًّا أن يمحوها فقال علىٌّ : لا والله لا أمحوها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أرنى مكانها فأراه مكانها فمحاها)) ، إلى غير ذلك من الوقائع .
فهؤلاء ثلاثة من الخلفاء الراشدين استفاد منهم السادة الشافعية وتابعهم كثير من العلماء المتأخرين من كافة المذاهب فى تقرير هذه القاعدة أن ((التزام الأدب مقدم على امتثال الأمر)) ، وهذا مسلك فقهى دقيق مبنى على فهم عميق واستقراء للكتاب والسنة ، وفرع الشافعية على ذلك مسائل منها استحباب السيادة عند ذكر اسم النبى صلى الله عليه وسلم مطلقا فى الأذان والإقامة والتشهد وغيرها ، على ما كان مستقرا فى ريف مصر لاستقرار المذهب الشافعى به . وهو نموذج جلى لمسالك العلماء فى فهم الشرع والبناء على الكتاب والسنة ، فلا هم يقولون برأيهم ، ولا يبتدعون فى دين الله ما لم ينزل به سلطانا .
ولكن ابتلينا فى أعصارنا المتأخرة بمن يجهل مسالك الصحابة والعلماء من بعدهم وطرائقهم فى الاستنباط ، ولا يسلم للكتاب ولا للسنة ولا للعلماء قياده ليعلموه ، رغم عريض دعاوى هؤلاء المتأخرين بالرجوع للكتاب والسنة ولكن دون فهم أو فقه ، تعريضا منهم بأن مذاهب الأئمة المتبعة كأنهم قالوها بأهوائهم وحاشاهم.
بل المذاهب الأربعة مبنية بناء رصينا على الكتاب والسنة ، وتلاقحت عليها عقول ألوف العلماء ، وما أُصِبْنَا بالاضطراب والتخبط اللذين نعيشهما الآن فى مجال الفتوى إلا بترك ما تهذبت أصوله وفروعه وشيد على الكتاب والسنة ، إلى شىء غير معلوم ولا معروف ولا مقرر ، وصار لكل متحدث مذهب([4]).
فى ضوء هذا الإطار الذى نرجو أن نكون قد نجحنا فى بيانه تأتى ترجمتنا لهؤلاء الأربعة : السيوطى ، والمتقى الهندى ، والمناوى ، والنبهانى . وأن نقرأ حياة هؤلاء بل حياة علمائنا جميعا ، وتاريخنا الإسلامى قراءة حقيقية مخلصة نزيهة .وختاما فهذه كلمة نقولها نصيحة لله ولرسوله وللمسلمين عامتهم وخاصتهم ، ندين الله بها ، ونسأله أن نحشر عليها ، وأن يدخلنا فى زمرة هؤلاء العلماء الذين هم على نهج واحد منذ عهد النبى صلى الله عليه وسلم وصحابته وإلى يومنا هذا – والذين نحبهم وإن لم نكن منهم – وأن يحشرنا جميعا تحت لواء حبيبنا صلى الله عليه وسلم ، فإن المرء مع من أحب ، وإن قصر عنهم .
([1]) وانظر أيضا : أطراف ((من سن . . .)) .
([2]) يأتى فى قسم الأقوال ، وفى مسند بلال .
([3])هذه خلاصة ما استقر عليه العلماء المعتبرون فى المذاهب جميعا ، وفى نصوصهم كثرة ، ولهذا سنقتصر على أهم المواضع عند عدة أئمة كبار يعرف قدرهم الجميع : الإمام الشافعى ، وسلطان العلماء الإمام المجتهد العز ابن عبد السلام ، والإمام النووى ، والحافظ ابن حجر العسقلانى ، والإمام السيوطى ، والإمام ابن حجر الهيتمى ، ثم نذكر أهم الرسائل التى ألفها العلماء المعتبرون والتى سيجد القارئ فيها بغيته من نصوص الأحاديث وكلام العلماء المتعلق بالباب :
أما الإمام الشافعى ، فأخرج كلامه الأول أبو نعيم فى الحلية ، (9/113) ، وأخرج الثانى البيهقى فى المدخل لمعرفة السنن (1/191) .
وأما الإمام العز ابن عبد السلام : فانظر ما ذكرناه ، وكلامه على تقسيم البدعة إلى ما دلت الشريعة على أنه مندوب وواجب ولم يفعل مثله فى العصر الأول فهذا بدعة حسنة . . . إلخ كلامه فى فتاويه : (ص 99 ، 144) ، وقواعد الأحكام أو القواعد الكبرى (ص 204 – 205).
وأما الإمام النووى : فانظر كلامه فى شرح مسلم (6/154-155) ، وتهذيب الأسماء واللغات (3/20-21) ، وانظر : تطبيقه لمفهوم البدعة على الصحيح المقرر عند العلماء فى فتاويه : المسائل (35 ، 41 ، 42 ، 43 ، 47 ، 49 ، 50 ، 53 ، 65 ، 66) .
وأما الحافظ ابن حجر ، فانظر كلامه فى فتح البارى : (4/253) ، وانظر أيضا : (1/85 ، 10/275 ، 11/55 ، 13/253 ، 254) .
وأما الإمام السيوطى فقد تكلم عن ذلك وقام بتطبيقه فى حسن المقصد فى عمل المولد ، وسيأتى الكلام عليه تحت عنوان : اختيارات الإمام السيوطى العلمية فى ترجمته .
وأما الإمام الفقيه شيخ الشافعية ابن حجر الهيتمى (ت 974 هـ) ، ففتاويه الكبرى ، والفتاوى الحديثية بها كثير من شواهد ذلك ، وانظر على سبيل الخصوص : الفتاوى الحديثية (ص 150 ، 280-281) .
فأما الرسائل المفردة : فمن أهم ما كتب مفردا فى الباب وأصل له من الناحية الأصولية والفقهية :
1- الباعث على إنكار البدع والحوادث للإمام العلامة أبى شامة (عبد الرحمن بن إسماعيل الشافعى ت 665 هـ) ، مصر : دار الهدى ، ط 1 ، 1398 هـ .
2- إتقان الصنعة فى تحقيق معنى البدعة ، ورسالة حسن الدرك لمسألة الترك ، لشيخنا شيخ الإسلام السيد عبد الله بن الصديق الغمارى ، مصر : مكتبة القاهرة ، د ت . وهناك عدة رسائل له مهمة فى هذا الصدد أيضا منها : الرد المحكم المتين ، وإعلام الراكع الساجد ، ومجموعة فتاويه ، وغيرها .
3- أحسن الكلام فيما يتعلق بالسنة والبدعة من الأحكام ، لشيخ الإسلام العلامة المجتهد محمد بخيت المطيعى ، ط مصر : جمعية الأزهر العلمية ، 1358 هـ .
4- السنة والبدعة ، للعلامة الشيخ عبد الله محفوظ محمد الحداد باعلوى الحضرمى ، قاضى حضرموت ، مصر : مكتبة المطيعى ، 1989 . وهو أوسع ما رأيته فى هذا الباب وأجمعه ذكر فيه ما يربو على (350) حديثا وأثرا .
ومن الرسائل التى فيها تطبيق فقهى عملى لمفهوم البدعة على ما قرروه :
5- إقامة الحجة على أن الإكثار فى التعبد ليس ببدعة ، للإمام اللكنوى ، بتحقيق الشيخ أبى غدة ، حلب : مكتب المطبوعات الإسلامية ، ط 3 ، 1419 هـ .
6- سباحة الفكر فى الجهر بالذكر ، للإمام اللكنوى ، بتحقيق الشيخ أبى غدة ، حلب : مكتب المطبوعات الإسلامية ، ط 3 ، 1408 هـ .
7- حكم الشريعة الإسلامية فى مأتم ليلة الأربعين ، وفيما يعمله الأحياء للأموات من الطاعات ، للعلامة الشيخ الفقيه حسنين مخلوف مفتى الديار المصرية الأسبق ، مصر : مصطفى الحلبى ، 1388 هـ .
8- مقالات العلامة الشيخ يوسف الدجوى أحد كبار علماء الأزهر الشريف ، والتى نشرها تباعا بمجلة الأزهر ، ثم قام مجمع البحوث الإسلامية بجمعها فى مجلدين ، وهى مقالات نفيسة فى بابها .
9- البراهين الساطعة فى رد بعض البدع الشائعة للعلامة الشيخ سلامة العزامى أحد كبار علماء الأزهر الشريف ، وهو من أهم ما كتب فى هذا الباب .
10- سعادة الدارين للعلامة المحقق الشيخ إبراهيم السمنودى ، وهو من أوسع وأفضل ما كتب فى الباب ، واستوعب فيه كثيرا مما أثاره متمشيخة العصر ، وقد طبع بمصر قديما (1319 هـ) ، وأصبح لا يكاد يعرفه أحد ، ثم أعيد طبعه قريبا فى الإمارات العربية : دار البحوث للدراسات الإسلامية ، وفى موريتانيا أيضا ، فجزى الله خيرا كل من أحيا علما صحيحا اندثر .
([4]) وانظر للتوسع : تشنيف الآذان بأدلة استحباب السيادة عند اسمه صلى الله عليه وسلم فى الصلاة والإقامة والأذان ، لخاتمة الحفاظ شيخ مشايخنا الحافظ أحمد بن الصديق الغمارى ، وإتقان الصنعة فى معرفة معنى البدعة لشيخنا شيخ الإسلام عبد الله بن الصديق الغمارى ، كلاهما طبع بمصر بمكتبة القاهرة .
لقد حاول مئات العلماء أن يستقرئوا شريعة الإسلام وفقهها ، ونجح عشرات منهم فى ذلك حتى عُمِلَ بطريقتهم فى الفقه عقودا أو قرونا ، ثم اندمج بعض المذاهب فى بعض من خلال الجدل العلمى طيلة عقود ، ليبقى مذهب من اتسعت دائرةُ استقرائه للشريعة ، واستطاع أن يقدم منهج فقهى أكمل ، وليذهب من عجز منهجه أو قصر .
وما حدث فى الفقه (مرتبة الإسلام) حدث فى العقيدة (مرتبة الإيمان) ، فسعى علماء أهل السنة لاستقراء عقيدتهم وتحليلها ، وبيان منهجها وقواعدها ، فمنهم من نجح فى الوصول إلى هذه الغاية ومنهم من قصر ، ويأتى على رأس الناجحين فى استقراء عقيدة أهل السنة وتقعيدها وتقريرها الإمامان : أبو الحسن الأشعرى (ت 324 هـ) ، وأبو منصور الماتريدى (ت333 هـ) ، واللذان لا يعدو دورهما فى العقيدة – ودور غيرهما من أئمة علماء العقيدة من أهل السنة – دور أئمة الفقه كأبى حنيفة ومالك والشافعى وأحمد رحمة الله على الجميع .
فجهد الأشعرى والماتريدى لا يعدو تقرير عقيدة أهل السنة بأساليب عقلية ونقلية وتقعيدها وتنظيرها وتدوينها بعد أن لم تكن مدونة شأنها شأن علوم الإسلام كافة .
ولكن يأبى أصحاب الدعوات المحدثة المبتدعة إلا أن يصوروا للعامة – زورا وبهتانا – أن الأشعرى والماتريدى من أصحاب الفرق المخالفة لأهل السنة والجماعة ، ويحشرونهما حشرا فى مؤلفاتهم عن الفرق المخالفة .
والذى يخفى على كثير من العامة أن ذلك الصنيع يؤدى حتما إلى إخراج علماء الأمة كافة من أهل السنة والجماعة ، لأنهم جميعا درسوا عقيدة أهل السنة واعتقدوها بناء على طريقة الأشعرى أو الماتريدى ، وليصبح أهل السنة فقط هم من رضى عنهم أصحاب تلك الدعوات ، فغروا الناس بهم ، وأرهبوهم تارة ورغبوهم تارة . ومن ذا يحب أن يتهم ببدعة أو مخالفة فى العقيدة ، ولهذا سَلَّم لهم كثير من العامة فرارا من التهمة ، وظنا فى صحة تلك المزاعم ، ومن هنا شاعت تلك الدعوة بين كثير من العامة لا لصوابها ولا لكونها أحيت السنة ، ولكن لإرهابها الناس بالتهم الباطلة ، وإغرائهم بالأموال الطائلة ، والسعى الحثيث وراء نشر الكتيبات والمؤلفات حسب دعوتهم وتوزيعها بالمجان على ملايين المسلمين .
هذا ما كان من حال الفقه والعقيدة (مرتبتى الإسلام والإيمان) ، وهو نفسه الحال الذى جرى فى التصوف (مرتبة الإحسان) ، فكان هناك مئات من المجتهدين فى استقراء طرق الشرع فى تهذيب النفس ، وقد وقع لهذه الطرق فى تهذيب النفس ما وقع للمذاهب الفقهية من اندماج بعضها واختفاء بعضها .
وكما سمَّوا العلم الذى يتناول مرتبة الإسلام فقها ، فقد سموا العلم الذى يتناول مرتبة الإيمان عقيدة ، وسموا العلم الذى يتناول مرتبة الإحسان تصوفا .
وكما سموا طرق المجتهدين فى الفقه مذاهب ، فيقولون : مذهب الشافعى ومذهب مالك ، فقد سموا سبل المجتهدين فى العقيدة مذهبا وطريقة ، فيقولون : طريقة الأشعرى ومذهبه ، وسموا مذاهب المجتهدين فى التصوف طريقة ، فيقولون : طريقة أبى الحسن الشاذلى ، وطريقة شاه نقشبند . ونسبوا كل طريقة ومذهب إلى أول من قررها وقعدها بناء على استقراء الشرع الحنيف ، لا أنهم اخترعوا ذلك أو ابتدعوه أو زادوه على الدين المحفوظ ، مثلهم فى نسبة ذلك إليهم مثل نسبة القراءات القرآنية إلى أئمتها كقراءة حفص وقراءة نافع … إلخ ، فنسبة القراءة إليهم نسبة اشتهار ، لا نسبة وضع وتأسيس ، وإلا فالقراءة سنة متبعة عن النبى صلى الله عليه وسلم .
ولهذا ستجد المذاهب والطرق جميعا ترجع بأسانيدها إلى الصحابة عن النبى صلى الله عليه وسلم ، فمذهب الإمام أبى حنيفة يرجع فى مجمله إلى مدرسة سيدنا عبد الله بن مسعود ، ولهذا تكثر موافقته له ، ومذهب الإمام مالك يرجع فى مجمله إلى مدرسة سيدنا عبد الله بن عمر بن الخطاب ، ومذهب الإمام الشافعى يرجع فى مجمله إلى مدرسة سيدنا عبد الله بن عباس ، وطريقة الشاذلى ترجع بأسانيدها إلى جملة من الصحابة على رأسهم سيدنا على بن أبى طالب ، وطريقة شاه نقشبند ترجع إلى جملة من الصحابة أيضا على رأسهم سيدنا أبو بكر الصديق رضى الله عن الجميع ، وهكذا فى سائر مذاهب أهل السنة وطرقها .
وكما اجتهد المجتهدون فى الفقه فمنهم من أصاب ومنهم من أخطأ ، فقد اجتهد المجتهدون فى العقيدة ، واجتهد المجتهدون فى التصوف ، فأصاب من أصاب وأخطأ من أخطأ ، وكما ادعى الفقه من ليس بفقيه ليشرف بالانتساب إليه ، فقد ادعى العلم بالعقيدة من ليس بمتكلم ، وادعى التصوف من ليس بصوفى ، ووقع ذلك فى علوم الإسلام كافة فهناك من انتسب للعلم بالسنة وحفْظ الحديث الشريف وليس كذلك ، وهناك من ادّعى العلم بالعربية وهو جاهل بها ، فهل ذُمَّ علم منها بسبب كثرة ادعاء المدعون له ، فلولا شرف الانتساب لعلم منها ما ادعاه المدعون ، وكلما ازداد علم منها شرفا كلما ازداد المدعون له عددا .
ولكن ما هو مسمى التصوف عندهم ؟ وما غرضه ؟
مسمى التصوف عندهم هو عرض أمر المرء كله فى صغيره وكبيره ، ظاهره وباطنه ، دقيقه وجليله ، على الكتاب والسنة ، بحيث لا يقدم عليه إلا عن بينة من دين الله ، مسمى التصوف عندهم هو {قل إن صلاتى ونسكى ومحياى ومماتى لله رب العالمين لا شريك له} ، مسمى التصوف عندهم إدامة الحضور بين يدى الله ((أن تعبد الله كأنك تراه)) فلا تُخْرج نَفَسا إلا وأنت مراقب لله فيه هل خرج من صدرك فيما يرضى ربك ، هذا هو مسمى التصوف عندهم ، وهو يحتاج إلى فهم عميق وعلم واسع بالكتاب والسنة ، إذ غرض التصوف عندهم هو العمل بالكتاب والسنة لا غير ، فهل تراه يختلف أحد على هذا المسمى أو الغرض منه .
فإذا اتفقنا على المسميات والمعانى يصبح من الحماقة الاختلاف على الأسماء ، فسمه تصوفا ، سمه سلوكا ، سمه تزكية ، سمه إحسانا ، سمه علم نفس ، سمه ما شئت .
ويصبح من الحماقة أيضا جعل ما يصدر عن الطغام والجهال هو المعيار فى قبول ذلك المسمى الشريف أو رفضه ، ومن الحماقة أيضا رفض المبادئ أو القيم المثلى لعدم وجود من يعمل بها ، أو الحكم عليها بسلوك العوام من أهلها .
وإلا فهل ترضى أن يحكم على الإسلام بعظمته وشموخه وكماله وأنه لسعادة البشر بأنه ليس كذلك لأننا أتعس الأمم الآن وأضعفها .
ولنقلها صريحة : أين هو من علماء الأمة من ليس له مذهب فقهى وعقيدى وصوفى ؟ ثم ما هو الغالب على الجماهير المجمهرة منهم ، إن الغالب عليهم هو ما سنجد السيوطى والمتقى الهندى والمناوى والنبهانى عليه ، ويعجبنى أن هؤلاء الأربعة ليسوا من بلد واحد فيقال طريقة أهل بلد واحد فما بال سائر البلدان ، فمن هؤلاء الأربعة مصريان أقاما بمصر (السيوطى – المناوى) ، وهندى أقام بمكة (المتقى الهندى) ، وشامى (النبهانى) ، ولو فتشت سائر بلدان الإسلام لوجدتهم جميعا على ذات النهج .
ولهذا لن تعجب إذا وجدت أن هؤلاء الأربعة الذين كانوا من خدمة السنة النبوية الشريفة ، والذين نمهد بهذا التمهيد بين يدى تراجمهم ، لن تعجب إذا وجدت شأنهم شأن غيرهم من كافة العلماء فى كافة الأمصار قد انتسبوا لمذهب فقهى من المذاهب الأربعة التى استقر عليها الأمر ، وجميعهم من أهل السنة على طريقة الأشعرى أو الماتريدى ، وانتسبوا جميعا للتصوف تعلقا وسلوكا وتأليفا ، تلك المذاهب والطرق جميعا التى بنيت وشيدت فى أصولها وطريقة استثمار فروعها على الكتاب والسنة ، ولن تعجب إذا وجدت أن العقل الجمعى الذى تشكل لدى علماء أمتنا هو عقل مبنى على الكتاب والسنة فى أسسه ، وقيمه ، ومناهجه ، وسلوكه ، وحركته الفكرية ، وإدراكه للواقع ، وأدواته لإعادة صياغة ذلك الواقع ليكون أكثر اقترابا من مراد الله فيه .
ولنذكر هنا نموذجين يمسان حياتنا المعاصرة لكثرة الشغب حولهما ، لنرى كيف كان أئمتنا وعلماؤنا يقررون قواعدهم ومذاهبهم ، وكيف كانوا يفهمون الكتاب والسنة بناء على فهم الصحابة أنفسهم له : النموذج الأول معنى البدعة ، والنموذج الثانى : قاعدة (التزام الأدب مقدم على امتثال الأمر) . وسنرى من خلال هذين النموذجين أن الجماهير المجمهرة من العلماء لم يخرجوا فيهما عن الكتاب والسنة قيد أنملة ، وإن زعم من زعم من متمشيخة هذا العصر خلاف ذلك .
النموذج الأول : معنى البدعة ، ومفهوم البدعة هو أحد المفاهيم المحورية ، والذى يفصل أولا بين ما هو مشروع وما هو غير مشروع ، ويفصل ثانيا بين العالم الحقيقى ومدعى العلم ، ولأهمية هذا المفهوم وخطورته أصبح من أكثر المفاهيم التى أسىء استخدامها هو ومفهوم الاجتهاد ، وتحت رايتهما تحولت السنة إلى بدعة ، والبدعة إلى سنة ، وترك كثير من العلم الصحيح والثابت ، وذم سلف هذه الأمة وأئمتها ، وما كان ذلك إلا ليصدق النبى صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به من علامات آخر الزمان : من إعجاب كل امرئ برأيه ، وأن تصبح السنة بدعة ، والبدعة سنة ، وأن يلعن آخر هذه الأمة أولها ، وألا يتبع العالم ، ولا يسمع للحليم ، وكل هذا قد رأيناه مكتوبا فى الكتب والصحف ، وسمعناه فى الإذاعات والفضائيات وعم به البلاء ، وسرى إلى أبعد الناس عن العلم وصار الكل يريد أن يفتى بنفسه ، وسمعت بنفسى أكثر من مرة ممن لم ير بعينه صحيح البخارى قط ، ولم يشتغل بالعلم قط ومع هذا يقول : ((إن فى صحيح البخارى أحاديث ضعيفة)) ، فمن أضعنا من قلبه هيبة الصحيح لماذا نبكى عليه إذا فقد الثقة بالسنة كلها ، ومن أضعنا من قلبه هيبة الأئمة الأربعة ومذاهبهم فلا تأس عليه إن ترك الشريعة برمتها وراء ظهره . ثم يصرخ متمشيخو العصر بأن الناس باتوا لا يسمعون لأحد ، فأنتم أخرجتموهم من اتباع أكابر الأئمة الذين استقرت الثقة بهم على مدى قرون ، فهدمتم تلك الثقة بأيديكم ، فتريدون أن يتبعوكم ، لا والله .
ومن هنا كان مفهوم البدعة مفهوما خطيرا للغاية ، وأدى العبث به إلى زلزلة الناس فى كثير مما جرت عليه أمورهم مما كان مبنيا على علم صحيح ، وإن غاب أصله عنهم ، وكانت مجتمعات المسلمين مبنية بناء راسخا فى قيمها وأخلاقها وأعمالها على الكتاب والسنة وما استنبطه العلماء منهما ، وكان ذلك ساريا سريان الدماء بالعروق فى عادات الناس وتقاليدهم وثقافتهم ، فأتت الدعوات المستحدثة لتهز ذلك تحت دعوى التنقية والتجديد ونبذ التقليد وترك البدع – وهى كلمات حق أريد بها باطل – ولتضرب حضارتنا بأيدينا فى أسسها ، ثم هبطت الحضارة الغربية علينا لتطبق على بناء حضارى كاد يشيخ ، ولم تعد تحمله أسسه التى بنى عليها ، ولا استطاع مجددوه المزعومون أن يبدلوه أسسا أقوى أو أثبت مما كان عليها قائما .
على أن أئمة المذاهب الأربعة بنوا مفهومهم للبدعة على استقراء تام للكتاب والسنة ، وهكذا كانوا يفعلون فى كل اختياراتهم العلمية .
فقد اتفق العلماء المعتبرون من عهد الصحابة فمن بعدهم على أن من اخترع فى الدين ما لا يشهد له أصل من أصوله فلا يلتفت إليه عملا بقوله صلى الله عليه وسلم ((من أحدث فى أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)) ([1]) ، فإذا شهد أصل عام له ، لم يكن ببدعة ، وإن لم يرد فيه نص بخصوصه ، والوقائع من عهد النبى صلى الله عليه وسلم والصحابة متواترة على ذلك ، فمن ذلك حديث ((قد سن لكم معاذ فاقتدوا به إذا جاء أحدكم وقد سبق بشىء من الصلاة فليصل مع الإمام بصلاته فإذا فرغ الإمام فليقض ما سبق به)) ، فلو كان اجتهاد معاذ باطلا لأنكره عليه صلى الله عليه وسلم ، وكذلك زيادة التثويب فى أذان فجر كان باجتهاد بلال ، فأقره النبى صلى الله عليه وسلم وقال له : ((ما أحسن هذا يا بلال اجعله فى أذانك)) ([2]) ، وكذلك الدعاء بعد الرفع من الركوع كان من بعض الصحابة فأقره صلى الله عليه وسلم وقال له : ((لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكا يبتدرونها أيهم يكتبها أول)) ، وما أنكر عليه أنه زاد دعاء فى الصلاة ، لأن الأصل العام يشهد باستحباب الدعاء فى الصلاة .
فهذه الأحاديث القولية وغيرها من الأحاديث والوقائع الواردة والتى خرجها الإمام السيوطى تصل إلى حد التواتر المعنوى ، والتى قررت أن كل ما شهد له أصل عام فى الشرع فليس ببدعة وإن لم يفعله النبى صلى الله عليه وسلم ، وأن هناك فرقا بين ما ورد عن النبى صلى الله عليه وسلم تركه ، وبين ما لم يفعله أصلا فينظر فيه حسب أصول الشرع وفروعه ، ومن هنا قال الإمام الشافعى وكفى به فهما واستقراء للكتاب والسنة : ((البدعة بدعتان بدعة محمودة وبدعة مذمومة ، فما وافق السنة فهو محمود وما خالف السنة فهو مذموم)) ، وقال أيضا : ((المحدثات : ضربان ما أحدث يخالف كتابا أو سنة أو أثرا أو إجماعا فهذه بدعة الضلال ، وما أحدث من الخير لا يخالف شيئا من ذلك فهذه محدثة غير مذمومة)) . وقال الإمام المجتهد العز ابن عبد السلام : ((لله أحكام تحدث عند حدوث أسباب لم تكن موجودة فى الصدر الأول)) ، وقال الإمام النووى : ((قوله صلى الله عليه وسلم (وكل بدعة ضلالة) هذا عام مخصوص ، والمراد غالب البدع ، قال أهل اللغة : هى كل شيء عمل على غير مثال سابق . قال العلماء : البدعة خمسة أقسام واجبة ومندوبة ومحرمة ومكروهة ومباحة ، فمن الواجبة : نظم أدلة المتكلمين للرد على الملاحدة والمبتدعين وشبه ذلك ، ومن المندوبة : تصنيف كتب العلم وبناء المدارس والربط وغير ذلك ، ومن المباح : التبسط فى ألوان الأطعمة وغير ذلك ، والحرام والمكروه ظاهران . فإذا عرف ما ذكرته عُلِمَ أن الحديث من العام المخصوص ، وكذا ما أشبهه من الأحاديث الواردة ، ويؤيد ما قلناه قول عمر بن الخطاب رضى الله عنه فى التراويح : (نعمت البدعة) ، ولا يمنع من كون الحديث عاما مخصوصا قوله : (كل بدعة) مؤكدا بكل ، بل يدخله التخصيص مع ذلك كقوله تعالى {تدمر كل شيء} . . .)) . وقال الحافظ : ((التحقيق أن البدعة إن كانت مما تندرج تحت مستحسن فى الشرع فهى حسنة ، وإن كانت مما تندرج تحت مستقبح فى الشرع فهى مستقبحة وإلا فهى من قسم المباح وقد تنقسم إلى الأحكام الخمسة))([3]) .
النموذج الثانى : أخرج البخارى ومسلم وغيرهما على ما سيأتى فى مسند سهل بن سعد : ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بنى عمرو بن عوف ليصلح بينهم فحانت الصلاة فجاء المؤذن إلى أبى بكر فقال أتصلى للناس فأقيم ؟ قال نعم فصلى أبو بكر فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس فى الصلاة فتخلص حتى وقف فى الصف فصفق الناس وكان أبو بكر لا يلتفت فى صلاته فلما أكثر الناس التصفيق التفت فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن أمكث مكانك . فرفع أبو بكر رضى الله عنه يديه فحمد الله على ما أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك ، ثم استأخر أبو بكر حتى استوى فى الصف وتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى فلما انصرف قال : يا أبا بكر ما منعك أن تثبت إذ أمرتك . فقال أبو بكر ما كان لابن أبى قحافة أن يصلى بين يدى رسول الله صلى الله عليه وسلم)) ، فقد استدل السادة الشافعية بصنيع أبى بكر وإقرار النبى صلى الله عليه وسلم له على تقرير قاعدة مهمة هى : ((التزام الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدم على امتثال الأمر)) ، والأحاديث فى ذلك متضافرة – ربما تصل إلى حد التواتر المعنوى - منها قصة صلح الحديبية وفيها ما يأتى فى مسند سلمة بن الأكوع تحت طرف ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عثمان بن عفان إلى أهل مكة ، فأجاره أبان بن سعيد بن العاص فحمله على سرجه وردفه حتى قدم به مكة ، فقال له : يا ابن عم أراك متخشعا ، اسبل كما يسبل قومك قال : هكذا يأتزر صاحبنا إلى أنصاف ساقيه ، قال : يا ابن عم طف بالبيت ، قال : إنا لا نصنع شيئا حتى يصنعه صاحبنا فنتبع أثره)) ، فترك سيدنا عثمان بن عفان طواف القدوم مع كونه مأمورا به التزاما للأدب معه صلى الله عليه وسلم أن يطوف قبله . وفى رواية لابن عساكر عن عروة بن الزبير – تأتى بتمامها فى مراسيله - : ((وقال المسلمون وهم بالحديبية قبل أن يرجع عثمان : خلص عثمان من بيننا إلى البيت فطاف به فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما أظنه طاف بالبيت ونحن محصورون . قالوا : وما يمنعه يا رسول الله وقد خلص . قال : ذاك ظنى به أنه لا يطوف بالكعبة حتى يطوف معنا فرجع إليهم عثمان . فقال المسلمون : اشتفيت يا أبا عبد الله من الطواف . فقال عثمان : بئس ما ظننتم بى فوالذى نفسى بيده لو مكثت بها مقيما سنة ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقيم بالحديبية ما طفت بها حتى يطوف بها رسول الله صلى الله عليه وسلم)) ، وفى صلح الحديبية أيضا عند مسلم وغيره من حديث البراء على ما سيأتى فى مسنده : ((لما حُصر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البيت صالحه أهل مكة . . .)) وفيه : ((فقال صلى الله عليه وسلم لعلىٍّ : اكتب الشرط بيننا : بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله ، فقال المشركون : لو نعلم أنك رسول الله تابعناك ، ولكن اكتب محمد بن عبد الله ، فأمر عليًّا أن يمحوها فقال علىٌّ : لا والله لا أمحوها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أرنى مكانها فأراه مكانها فمحاها)) ، إلى غير ذلك من الوقائع .
فهؤلاء ثلاثة من الخلفاء الراشدين استفاد منهم السادة الشافعية وتابعهم كثير من العلماء المتأخرين من كافة المذاهب فى تقرير هذه القاعدة أن ((التزام الأدب مقدم على امتثال الأمر)) ، وهذا مسلك فقهى دقيق مبنى على فهم عميق واستقراء للكتاب والسنة ، وفرع الشافعية على ذلك مسائل منها استحباب السيادة عند ذكر اسم النبى صلى الله عليه وسلم مطلقا فى الأذان والإقامة والتشهد وغيرها ، على ما كان مستقرا فى ريف مصر لاستقرار المذهب الشافعى به . وهو نموذج جلى لمسالك العلماء فى فهم الشرع والبناء على الكتاب والسنة ، فلا هم يقولون برأيهم ، ولا يبتدعون فى دين الله ما لم ينزل به سلطانا .
ولكن ابتلينا فى أعصارنا المتأخرة بمن يجهل مسالك الصحابة والعلماء من بعدهم وطرائقهم فى الاستنباط ، ولا يسلم للكتاب ولا للسنة ولا للعلماء قياده ليعلموه ، رغم عريض دعاوى هؤلاء المتأخرين بالرجوع للكتاب والسنة ولكن دون فهم أو فقه ، تعريضا منهم بأن مذاهب الأئمة المتبعة كأنهم قالوها بأهوائهم وحاشاهم.
بل المذاهب الأربعة مبنية بناء رصينا على الكتاب والسنة ، وتلاقحت عليها عقول ألوف العلماء ، وما أُصِبْنَا بالاضطراب والتخبط اللذين نعيشهما الآن فى مجال الفتوى إلا بترك ما تهذبت أصوله وفروعه وشيد على الكتاب والسنة ، إلى شىء غير معلوم ولا معروف ولا مقرر ، وصار لكل متحدث مذهب([4]).
فى ضوء هذا الإطار الذى نرجو أن نكون قد نجحنا فى بيانه تأتى ترجمتنا لهؤلاء الأربعة : السيوطى ، والمتقى الهندى ، والمناوى ، والنبهانى . وأن نقرأ حياة هؤلاء بل حياة علمائنا جميعا ، وتاريخنا الإسلامى قراءة حقيقية مخلصة نزيهة .وختاما فهذه كلمة نقولها نصيحة لله ولرسوله وللمسلمين عامتهم وخاصتهم ، ندين الله بها ، ونسأله أن نحشر عليها ، وأن يدخلنا فى زمرة هؤلاء العلماء الذين هم على نهج واحد منذ عهد النبى صلى الله عليه وسلم وصحابته وإلى يومنا هذا – والذين نحبهم وإن لم نكن منهم – وأن يحشرنا جميعا تحت لواء حبيبنا صلى الله عليه وسلم ، فإن المرء مع من أحب ، وإن قصر عنهم .
([1]) وانظر أيضا : أطراف ((من سن . . .)) .
([2]) يأتى فى قسم الأقوال ، وفى مسند بلال .
([3])هذه خلاصة ما استقر عليه العلماء المعتبرون فى المذاهب جميعا ، وفى نصوصهم كثرة ، ولهذا سنقتصر على أهم المواضع عند عدة أئمة كبار يعرف قدرهم الجميع : الإمام الشافعى ، وسلطان العلماء الإمام المجتهد العز ابن عبد السلام ، والإمام النووى ، والحافظ ابن حجر العسقلانى ، والإمام السيوطى ، والإمام ابن حجر الهيتمى ، ثم نذكر أهم الرسائل التى ألفها العلماء المعتبرون والتى سيجد القارئ فيها بغيته من نصوص الأحاديث وكلام العلماء المتعلق بالباب :
أما الإمام الشافعى ، فأخرج كلامه الأول أبو نعيم فى الحلية ، (9/113) ، وأخرج الثانى البيهقى فى المدخل لمعرفة السنن (1/191) .
وأما الإمام العز ابن عبد السلام : فانظر ما ذكرناه ، وكلامه على تقسيم البدعة إلى ما دلت الشريعة على أنه مندوب وواجب ولم يفعل مثله فى العصر الأول فهذا بدعة حسنة . . . إلخ كلامه فى فتاويه : (ص 99 ، 144) ، وقواعد الأحكام أو القواعد الكبرى (ص 204 – 205).
وأما الإمام النووى : فانظر كلامه فى شرح مسلم (6/154-155) ، وتهذيب الأسماء واللغات (3/20-21) ، وانظر : تطبيقه لمفهوم البدعة على الصحيح المقرر عند العلماء فى فتاويه : المسائل (35 ، 41 ، 42 ، 43 ، 47 ، 49 ، 50 ، 53 ، 65 ، 66) .
وأما الحافظ ابن حجر ، فانظر كلامه فى فتح البارى : (4/253) ، وانظر أيضا : (1/85 ، 10/275 ، 11/55 ، 13/253 ، 254) .
وأما الإمام السيوطى فقد تكلم عن ذلك وقام بتطبيقه فى حسن المقصد فى عمل المولد ، وسيأتى الكلام عليه تحت عنوان : اختيارات الإمام السيوطى العلمية فى ترجمته .
وأما الإمام الفقيه شيخ الشافعية ابن حجر الهيتمى (ت 974 هـ) ، ففتاويه الكبرى ، والفتاوى الحديثية بها كثير من شواهد ذلك ، وانظر على سبيل الخصوص : الفتاوى الحديثية (ص 150 ، 280-281) .
فأما الرسائل المفردة : فمن أهم ما كتب مفردا فى الباب وأصل له من الناحية الأصولية والفقهية :
1- الباعث على إنكار البدع والحوادث للإمام العلامة أبى شامة (عبد الرحمن بن إسماعيل الشافعى ت 665 هـ) ، مصر : دار الهدى ، ط 1 ، 1398 هـ .
2- إتقان الصنعة فى تحقيق معنى البدعة ، ورسالة حسن الدرك لمسألة الترك ، لشيخنا شيخ الإسلام السيد عبد الله بن الصديق الغمارى ، مصر : مكتبة القاهرة ، د ت . وهناك عدة رسائل له مهمة فى هذا الصدد أيضا منها : الرد المحكم المتين ، وإعلام الراكع الساجد ، ومجموعة فتاويه ، وغيرها .
3- أحسن الكلام فيما يتعلق بالسنة والبدعة من الأحكام ، لشيخ الإسلام العلامة المجتهد محمد بخيت المطيعى ، ط مصر : جمعية الأزهر العلمية ، 1358 هـ .
4- السنة والبدعة ، للعلامة الشيخ عبد الله محفوظ محمد الحداد باعلوى الحضرمى ، قاضى حضرموت ، مصر : مكتبة المطيعى ، 1989 . وهو أوسع ما رأيته فى هذا الباب وأجمعه ذكر فيه ما يربو على (350) حديثا وأثرا .
ومن الرسائل التى فيها تطبيق فقهى عملى لمفهوم البدعة على ما قرروه :
5- إقامة الحجة على أن الإكثار فى التعبد ليس ببدعة ، للإمام اللكنوى ، بتحقيق الشيخ أبى غدة ، حلب : مكتب المطبوعات الإسلامية ، ط 3 ، 1419 هـ .
6- سباحة الفكر فى الجهر بالذكر ، للإمام اللكنوى ، بتحقيق الشيخ أبى غدة ، حلب : مكتب المطبوعات الإسلامية ، ط 3 ، 1408 هـ .
7- حكم الشريعة الإسلامية فى مأتم ليلة الأربعين ، وفيما يعمله الأحياء للأموات من الطاعات ، للعلامة الشيخ الفقيه حسنين مخلوف مفتى الديار المصرية الأسبق ، مصر : مصطفى الحلبى ، 1388 هـ .
8- مقالات العلامة الشيخ يوسف الدجوى أحد كبار علماء الأزهر الشريف ، والتى نشرها تباعا بمجلة الأزهر ، ثم قام مجمع البحوث الإسلامية بجمعها فى مجلدين ، وهى مقالات نفيسة فى بابها .
9- البراهين الساطعة فى رد بعض البدع الشائعة للعلامة الشيخ سلامة العزامى أحد كبار علماء الأزهر الشريف ، وهو من أهم ما كتب فى هذا الباب .
10- سعادة الدارين للعلامة المحقق الشيخ إبراهيم السمنودى ، وهو من أوسع وأفضل ما كتب فى الباب ، واستوعب فيه كثيرا مما أثاره متمشيخة العصر ، وقد طبع بمصر قديما (1319 هـ) ، وأصبح لا يكاد يعرفه أحد ، ثم أعيد طبعه قريبا فى الإمارات العربية : دار البحوث للدراسات الإسلامية ، وفى موريتانيا أيضا ، فجزى الله خيرا كل من أحيا علما صحيحا اندثر .
([4]) وانظر للتوسع : تشنيف الآذان بأدلة استحباب السيادة عند اسمه صلى الله عليه وسلم فى الصلاة والإقامة والأذان ، لخاتمة الحفاظ شيخ مشايخنا الحافظ أحمد بن الصديق الغمارى ، وإتقان الصنعة فى معرفة معنى البدعة لشيخنا شيخ الإسلام عبد الله بن الصديق الغمارى ، كلاهما طبع بمصر بمكتبة القاهرة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق