قال الإمام المجمع على جلالته وإمامته ابن خلدون فى مقدمته الشهيرة :
1- هذا العلم من العلوم الشرعية الحادثة فى الملة.
2- وأصله أن طريقة هؤلاء القوم، لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم، طريقة الحق والهداية و أصلها العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى، والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها، والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه، والانفراد عن الخلق فى الخلوة للعبادة، وكان ذلك عاماً فى الصحابة والسلف.
3- فلما فشا الإقبال على الدنيا فى القرن الثانى وما بعده، وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا، اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية والمتصوفة. وقال القشيرى رحمه الله: ((ولا يشهد لهذا الاسم اشتقاق من جهة العربية ولا قياس. والظاهر أنه لقب. ومن قال: اشتقاقه من الصفاء، أو من الصفة، فبعيد من جهة القياس اللغوي)) ، قال: ((وكذلك من الصوف لأنهم لم يختصوا بلبسه)) .قلت : والأظهر أن قيل بالاشتقاق أنه من الصوف، وهم فى الغالب مختصون بلبسه، لما كانوا عليه من مخالفة الناس فى لبس فاخر الثياب إلى لبس الصوف.
4- فلما اختص هؤلاء بمذهب الزهد والانفراد عن الخلق والإقبال على العبادة، اختصوا بمآخذ مدركة لهم، وذلك أن الإنسان بما هو إنسان إنما يتميز عن سائر الحيوان بالإدراك، وإدراكه نوعان: إدراك للعلوم والمعارف من اليقين والظن والشك والوهم، وإدراك للأحوال القائمة من الفرح والحزن والقبض والبسط والرضا والغضب والصبر والشكر، وأمثال ذلك. فالروح العاقل والمتصرف فى البدن تنشأ من إدراكات وإرادات وأحوال، وهى التى يتميز بها الإنسان. وبعضها ينشأ من بعض، كما ينشأ العلم عن الأدلة، والفرح والحزن عن إدراك المؤلم أو المتلذذ به، والنشاط عن الحمام، والكسل عن الإعياء.
5- وكذلك المريد فى مجاهدته وعبادته، لا بد وأن ينشأ له عن كل مجاهدة حال نتيجة تلك المجاهدة. وتلك الحالة إما أن تكون نوع عبادة، فترسخ وتصير مقاماً للمريد، وإما أن لا تكون عبادة، وإنما تكون صفة حاصلة للنفس. من حزن أو سرور أو نشاط أو كسل أو غير ذلك من المقامات. ولا يزال المريد يترقى من مقام إلى مقام، إلى أن ينتهى إلى التوحيد والمعرفة التى هى الغاية المطلوبة للسعادة. قال صلى الله عليه وسلم: " من مات يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة " .
6- فالمريد لا بد له من الترقى فى هذه الأطوار، وأصلها كلها الطاعة والإخلاص، ويتقدمها الإيمان ويصاحبها، وتنشأ عنها الأحوال والصفات نتائج وثمرات. ثم تنشأ عنها أخرى وأخرى إلى مقام التوحيد والعرفان. وإذا وقع تقصير فى النتيجة أو خلل فنعلم أنه إنما أتى من قبل التقصير فى الذى قبله. وكذلك فى الخواطر النفسانية والواردات القلبية. فلذا يحتاج المريد إلى محاسبة نفسه فى سائر أعماله، وينظر فى حقائقها، لأن حصول النتائج عن الأعمال ضرورى وقصورها من الخلل فيها كذلك. والمريد يجد ذلك بذوقه ويحاسب نفسه على أسبابه. ولا يشاركهم فى ذلك إلا القليل من الناس، لأن الغفلة عن هذا كأنها شاملة.
7- وغاية أهل العبادات، إذا لم ينتهوا إلى هذا النوع، أنهم يأتون بالطاعات مخلصة من نظر الفقه فى الأجزاء والامتثال. وهؤلاء يبحثون عن نتائجها بالأذواق والمواجد، ليطلعوا على أنها خالصة من التقصير أولاً، فظهر أن أصل طريقتهم كلها محاسبة النفس على الأفعال والتروك، والكلام فى هذه الأذواق والمواجد التى تحصل عن المجاهدات، ثم تستقر للمريد مقاماً، ويترقى منها إلى غيرها.
8- ثم لهم مع ذلك آداب مخصوصة بهم واصطلاحات فى ألفاظ تدور بينهم، إذ الأوضاع اللغوية إنما هى للمعانى المتعارفة. فإذا عرض من المعانى ما هو غير متعارف، اصطلحنا عن التعبير عنه بلفظ يتيسر فهمه منه. فلهذا اختص هؤلاء بهذا النوع من العلم الذى ليس لواحد غيرهم من أهل الشريعة الكلام فيه.
9- وصار علم الشريعة على صنفين: صنف مخصوص بالفقهاء وأهل الفتيا، وهى الأحكام العامة فى العبادات والعادات والمعاملات، وصنف مخصوص بالقوم فى القيام بهذه المجاهدة ومحاسبة النفس عليها، والكلام فى الأذواق والمواجد العارضة فى طريقها، وكيفية الترقى منها من فوق إلى فوق، وشرح الاصطلاحات التى تدور بينهم فى ذلك.
10- فلما كتبت العلوم ودونت، وألف الفقهاء فى الفقه وأصوله والكلام والتفسير وغير ذلك، كتب رجال من أهل هذه الطريقة فى طريقتهم. فمنهم من كتب فى الورع ومحاسبة النفس على الاقتداء فى الأخذ والترك، كما فعله المحاسبى فى كتاب الرعاية له، ومنهم من كتب فى آداب الطريقة وأذواق أهلها ومواجدهم فى الأحوال كما فعله القشيرى فى كتاب الرسالة، والسهروردى فى كتاب عوارف المعارف وأمثالهم. وجمع الغزالى رحمه الله بين الأمرين فى كتاب الإحياء، فدون فيه أحكام الورع والاقتداء، ثم بين آداب القوم وسننهم وشرح اصطلاحاتهم فى عباراتهم.
11- وصار علم التصوف فى الملة علما مدوناً، بعد أن كانت الطريقة عبادة فقط وكانت أحكامها إنما تتلقى من صدور الرجال، كما وقع فى سائر العلوم التى دونت بالكتاب من التفسير والحديث والفقه والأصول وغير ذلك.
12- ثم إن هذه المجاهدة والخلوة والذكر يتبعها غالباً كشف حجاب الحس، والاطلاع على عوالم من أمر الله، ليس لصاحب الحس إدراك شيء منها، والروح من تلك العوالم. وسبب هذا الكشف أن الروح إذا رجع عن الحس الظاهر إلى الباطن ضعفت أحوال الحس، وقويت أحوال الروح، وغلب سلطانه وتجدد نشؤه، وأعان على ذلك الذكر، فإنه كالغذاء لتنمية الروح، ولا يزال فى نمو وتزيد، إلى أن يصير شهوداً بعد أن كان علماً. ويكشف حجاب الحس، ويتم وجود النفس الذى لها من ذاتها، وهو عين الإدراك. فيتعرض حينئذ للمواهب الربانية والعلوم المدنية والفتح الإلهي، وتقرب ذاته فى تحقيق حقيقتها من الأفق الأعلى، أفق الملائكة. وهذا الكشف كثيراً ما يعرض لأهل المجاهدة فيدركون من حقائق الوجود ما لا يدرك سواهم. وكذلك يدركون كثيراً من الواقعات قبل وقوعها ويتصرفون بهممهم وقوى نفوسهم فى الموجودات السفلية، وتصير طوع إرادتهم.
13- فالعظماء منهم لا يعتبرون هذا الكشف ولا يتصرفون، ولا يخبرون عن حقيقة شيء لم يؤمروا بالتكلم فيه، بل يعدون ما يقع لهم من ذلك محنة، ويتعوذون منه إذا هاجمهم.
14- وقد كان الصحابة رضى الله عنهم على مثل هذه المجاهدة، وكان حظهم من هذه الكرامات أوفر الحظوظ، لكنهم لم يقع لهم بها عناية. وفى فضائل أبى بكر وعمر وعثمان وعلى رضى الله عنهم كثير منها. وتبعهم فى ذلك أهل الطريقة، ممن اشتملت رسالة القشيرى على ذكرهم، ومن تبع طريقتهم من بعدهم.
15- ثم إن قوماً من المتأخرين انصرفت عنايتهم إلى كشف الحجاب والكلام فى المدارك التى وراءه، واختلفت طرق الرياضة عنهم فى ذلك، باختلاف تعليمهم فى إماتة القوى الحسية وتغذية الروح العاقل بالذكر، حتى يحصل للنفس إدراكها الذى لها من ذاتها بتمام نشوتها وتغذيتها. فإذا حصل ذلك زعموا أن الوجود قد انحصر فى مداركها حينئذ، وأنهم كشفوا ذوات الوجود وتصوروا حقائقها كلها من العرش إلى الطش. هكذا قال الغزالى رحمه الله فى كتاب الإحياء بعد أن ذكر صورة الرياضة.
16- ثم إن هذا الكشف لا يكون صحيحاً كاملاً عندهم، إلا إذا كان ناشئاً عن الاستقامة، لأن الكشف قد يحصل لصاحب الجوع والخلوة، وإن لم يكن هناك استقامة كالسحرة وغيرهم من المرتاضين. وليس مرادنا إلا الكشف الناشىء عن الاستقامة. ومثاله أن المرآة الصقيلة إذا كانت محدبة أو مقعرة، وحوذى بها جهة المرئي، فإنه يتشكل فيه معوجاً على غير صورته. وإن كانت مسطحة تشكل فيها المرئى صحيحاً. فالاستقامة للنفس، كالانبساط للمرآة، فيما ينطبع فيها من الأحوال.
17- ولما عنى المتأخرون بهذا النوع من الكشف، تكلموا فى حقائق الموجودات العلوية والسفلية، وحقائق الملك والروح والعرش والكرسى وأمثال ذلك، وقصرت مدارك من لم يشاركهم فى طريقهم عن فهم أذواقهم ومواجدهم فى ذلك. وأهل الفتيا بين منكر عليهم ومسلم لهم. وليس البرهان والدليل بنافع فى هذه الطريق، رداً وقبولاً، إذ هى من قبيل الوجدانيات.
18- تفصيل وتحقيق: يقع كثيراً فى كلام أهل العقائد، من علماء الحديث والفقه أن الله تعالى مباين لمخلوقاته. ويقع للمتكلمين أنه لا مباين ولا متصل. ويقع للفلاسفة أنه لا داخل العالم ولا خارجه. ويقع للمتأخرين من المتصوفة أنه متحد بالمخلوقات: إما بمعنى الحلول فيها، أو بمعنى أنه هو عينها، وليس هناك غيره جملة ولا تفصيلاً. فلنبين تفصيل هذه المذاهب ونشرح حقيقة كل واحد منها، حتى تتضح معانيها فنقول، إن المباينة تقال لمعنيين:
19- أحدهما المباينة فى الحيز والجهة، ويقابله الاتصال. وتشعر هذه المقابلة على هذه التقيد بالمكان: إما صريحاً، وهو تجسيم، أو لزوماً وهو تشبيه من قبيل القول بالجهة. وقد نقل مثله عن بعض علماء السلف من التصريح بهذه المباينة، فيحتمل غير هذا المعنى. من أجل ذلك أنكر المتكلمون هذه المباينة وقالوا: لا يقال فى البارىء أنه مباين مخلوقاته، ولا متصل بها، لأن ذلك إنما يكون للمتحيزات. وما يقال من أن المحل لا يخلو عن الاتصاف بالمعنى وضده، فهو مشروط بصحة الاتصاف أولاً، وأما مع امتناعه فلا، بل يجوز الخلو عن المعنى وضده، كما يقال فى الجماد، لا عالم ولا جاهل ولا قادر ولا عاجز ولا كاتب ولا أمي. وصحة الاتصاف بهذه المباينة مشروط بالحصول فى الجهة على ما تقرر من مدلولها. والبارىء سبحانه منزه عن ذلك. ذكره ابن التلمسانى فى شرح اللمع لإمام الحرمين وقال: " ولا يقال فى البارىء مباين للعالم ولا متصل به، ولا داخل فيه ولا خارج عنه. وهو معنى ما يقوله الفلاسفة أنه لا داخل العالم ولا خارجه، بناء على وجود الجواهر غير المتحيزة. وأنكرها المتكلمون لما يلزم من مساواتها للبارىء فى أخص الصفات، وهو مبسوط فى علم الكلام.
20- وأما المعنى الآخر للمباينة، فهو المغايرة والمخالفة، فيقال: البارىء مباين لمخلوقاته فى ذاته وهويته ووجوده وصفاته. ويقابله الاتحاد والامتزاج والاختلاط. وهذه المباينة هى مذهب أهل الحق كلهم من جمهور السلف وعلماء الشرائع والمتكلمين والمتصوفة الأقدمين كأهل الرسالة ومن نحا منحاهم.
21- وذهب جماعة من المتصوفة المتأخرين الذين صيروا المدارك الوجدانية علمية نظرية، إلى أن البارىء تعالى متحد بمخلوقاته فى هويته ووجوده وصفاته. وربما زعموا أنه مذهب الفلاسفة قبل أرسطو، مثل أفلاطون وسقراط، وهو الذى يعينه المتكلمون حيث ينقلونه فى علم الكلام عن المتصوفة ويحاولون الرد عليه لأنه ذاتان تنتفى إحداهما، أو تندرج اندراج الجزء، فإن تلك مغايرة صريحة، ولا يقولون بذلك. وهذا الاتحاد هو الحلول الذى تدعيه النصارى فى المسيح عليه السلام، وهو أغرب لأنه حلول قديم فى محدث أو اتحاده به. وهو أيضاً عين ما تقوله الإمامية من الشيعة فى الأمامية.
22- وتقرير هذا الاتحاد فى كلامهم على طريقين: الأولى: أن ذات القديم كائنة فى المحدثات محسوسها ومعقولها، متحدة بها فى المتصورين، وهى كلها مظاهر له، وهو القائم عليها، أى المقوم لوجودها، بمعنى لولاه كانت عدماً وهو رأى أهل الحلول.
23- الثانية: طريق أهل الوحدة المطلقة وكأنهم استشعروا من تقرير أهل الحلول الغيرية المنافية لمعقول الاتحاد، فنفوها بين القديم وبين المخلوقات فى الذات والوجود والصفات. وغالطوا فى غيرية المظاهر المدركة بالحس والعقل بأن ذلك من المدارك البشرية، وهى أوهام. ولا يريدون الوهم الذى هو قسيم العلم والظن والشك، وإنما يريدون أنها كلها عدم فى الحقيقة، وجود فى المدرك البشرى فقط. ولا وجود بالحقيقة إلا للقديم، لا فى الظاهر ولا فى الباطن كما نقرره بعد، بحسب الإمكان. والتعويل فى تعقل ذلك على النظر والاستدلال، كما فى المدارك البشرية، غير مفيد، لأن ذلك إنما ينقل من المدارك الملكية، وإنما هى حاصلة للأنبياء بالفطرة ومن بعدهم للأولياء بهدايتهم. وقصد من يقصد الحصول عليها بالطريقة العلمية ضلال.
24- وربما قصد بعض المصنفين بيان مذهبهم فى كشف الوجود وترتيب حقائقه، فأتى بالأغمض فالأغمض، بالنسبة إلى أهل النظر والاصطلاحات والعلوم. كما فعل الفرغاني، شارح قصيدة ابن الفارض، فى الديباجة التى كتبها فى صدر ذلك الشرح، فإنه ذكر فى صدور الوجود عن الفاعل وترتيبه، أن الوجود كله صادر عن صفة الوحدانية، التى هى مظهر الأحدية، وهما معاً صادران عن الذات الكريمة التى هى عين الوحدة لا غير. ويسمون هذا الصدور بالتجلي. وأول مراتب التجليات عندهم تجلى الذات، على نفسه، وهو يتضمن الكمال بإفاضة الإيجاد والظهور، لقوله فى الحديث الذى يتناقلونه: " كنت كنزاً مخفياً، فأحببت أن أعرف، فخلقت الخلق ليعرفونى " . وهذا الكمال فى الإيجاد المتنزل فى الوجود وتفصيل الحقائق، وهو عندهم عالم المعانى والحضرة الكمالية والحقيقة المحمدية، وفيها حقائق الصفات واللوح والقلم وحقائق الأنبياء والرسل أجمعين، والكمل من أهل الملة المحمدية. وهذا كله تفصيل الحقيقة المحمدية. ويصدر عن هذه الحقائق حقائق أخرى فى الحضرة الهبائية، وهى مرتبة المثال، ثم عنها العرش، ثم الكرسي، ثم الأفلاك، ثم عالم العناصر، ثم عالم التركيب. هذا فى عالم الرتق،، فإذا تجلت، فهى فى عالم الفتق. انتهى.
25- ويسمى هذا المذهب مذهب أهل التجلى والمظاهر والحضرات، وهوكلام لا يقدر أهل النظر على تحصيل مقتضاه لغموضه وانغلاقه، وبعد ما بين كلام صاحب المشاهدة والوجدان وصاحب الدليل. وربما أنكر بظاهر الشرع هذا الترتيب فإنه لا يعرف فى شيء من مناحيه.
26- وكذلك ذهب آخرون منهم إلى القول بالوحدة المطلقة، وهو رأى أغرب من الأول فى تعقله وتفاريعه، يزعمون فيه أن الوجود له قوى فى تفاصيله، بها كانت حقائق الموجودات وصورها وموادها. والعناصر إنما كانت بما فيها من القوى، وكذلك مادتها لها فى نفسها قوة بها كان وجودها. ثم إن المركبات فيها تلك القوى متضمنة فى القوة التى كان بها التركيب. كالقوة المعدنية فيها قوى العناصر بهيولاها، وزيادة القوة المعدنية، ثم القوة الحيوانية تتضمن القوة المعدنية وزيادة قوتها فى نفسها، وكذا القوة الإنسانية مع الحيوانية، ثم الفلك يتضمن القوة الإنسانية وزيادة. وكذا الذوات الروحانية والقوة الجامعة للكل من غير تفصيل، هى القوة الإلهية التى انبثت فى جميع الموجودات كلية وجزئية، وجمعتها وأحاطت بها من كل وجه، لا من جهة الظهور ولا من جهة الخفاء ولا من جهة الصورة، ولا من جهة المادة، فالكل واحد وهو نفس الذات الإلهية، وهى فى الحقيقة واحدة بسيطة، والاعتبار هو المفضل لها، كالإنسانية مع الحيوانية. ألا ترى أنها مندرجة فيها وكائنة بكونها. فتارة يمثلونها بالجنس مع النوع، فى كل موجود كما ذكرناه، وتارة بالكل مع الجزء، على طريقة المثال. وهم فى هذا كله يفرون من التركيب والكثرة بوجه من الوجوه، وإنما أوجبها عندهم الوهم والخيال. والذى يظهر من كلام ابن دهقان فى تقرير هذا المذهب، أن حقيقة ما يقولونه فى الوحدة شبيه بما يقوله الحكماء فى الألوان، من أن وجودها مشروط بالضوء، فإذا عدم الضوء لم تكن الألوان موجودة بوجه.
27- وكذا عندهم الموجودات المحسوسة كلها مشروطة بوجود المدرك الحسي، بل والموجودات المعقولة والمتوهمة أيضاً مشروطة بوجود المدرك العقلي، فإذا الوجود المفصل كله مشروط بوجود المدرك البشري. فلو فرضنا عدم المدرك البشرى جملة لم يكن هناك تفصيل فى الوجود، بل هو بسيط واحد. فالحر والبرد، والصلابة واللين، بل والأرض والماء، والنار والسماء والكواكب، إنما وجدت لوجود الحواس المدركة لها، لما جعل فى المدرك من التفصيل، الذى ليس فى الموجود، وإنما هو فى المدارك فقط. فإذا فقدت المدارك المفصلة فلا تفصيل، إنما هو إدراك واحد، وهو أنا لا غيره. ويعتبرون ذلك بحال النائم، فإنه إذا نام وفقد الحس الظاهر، فقد كل محسوس، وهو فى تلك الحالة، إلا ما يفصله له الخيال. قالوا: فكذلك اليقظان إنما يعتبر تلك المدركات كلها على التفصيل بنوع مدركه البشري، ولو قدر فقد مدركه فقد التفصيل، وهذا هو معنى قولهم: الوهم، لا الوهم الذى هو من جملة المدارك البشرية.
28- هذا ملخص رأيهم على ما يفهم من كلام ابن دهقان، وهو فى غاية السقوط، لأنا نقطع بوجود البلد الذى نحن مسافرون إليه يقيناً مع غيبته عن أعيينا، وبوجود السماء المظلة والكواكب وسائر الأشياء الغائبة عنا. والإنسان قاطع بذلك، ولا يكابر أحد نفسه فى اليقين، مع أن المحققين من المتصوفة المتأخرين يقولون: إن المريد عند الكشف ربما يعرض له توهم هذه الوحدة، ويسمى ذلك عندهم مقام الجمع ثم يترقى عنه إلى التمييز بين الموجودات، ويعبرون عن ذلك بمقام الفرق، وهو مقام العارف المحقق. ولا بد للمريد عندهم من عقبة الجمع، وهى عقبة صعبة، لأنه يخشى على المريد من وقوفه عندها، فتخسر صفقته. فقد تبينت مراتب أهل هذه الطريقة.
29- ثم إن هؤلاء المتأخرين من المتصوفة المتكلمين فى الكشف وفيما وراء الحس، توغلوا فى ذلك، فذهب الكثير منهم إلى الحلول والوحدة كما أشرنا إليه، وملأوا الصحف منه، مثل الهروي، فى كتاب المقامات له، وغيره. وتبعهم ابن العربى وابن سبعين وتلميذهما ثم ابن العفيف وابن الفارض والنجم الإسرائيلى فى قصائدهم. وكان سلفهم مخالطين للإسماعيلية المتأخرين من الرافضة الدائنين أيضاً بالحلول وإلهية الأئمة، مذهباً لم يعرف لأولهم، فأشرب كل واحد من الفريقين مذهب الآخر. واختلط كلامهم وتشابهت عقائدهم. وظهر فى كلام المتصوفة القول بالقطب، ومعناه رأس العارفين. يزعمون أنه لا يمكن أن يساويه أحد فى مقامه فى المعرفة، حتى يقبضه الله. ثم يورث مقامه الآخر من أهل العرفان.
30- وقد أشار إلى ذلك ابن سينا فى كتاب الإشارات، فى فصول التصوف منها، فقال: " جل جناب الحق أن يكون شرعة لكل وارد، أو يطلع عليه إلا الواحد بعد الواحد " . وهذا كلام لا تقوم عليه حجة عقلية ولا دليل شرعي، وإنما هو من أنواع الخطابة، وهو بعينه ما تقوله الرافضة فى توارث الأئمة عندهم. فانظر كيف سرقت طباع هؤلاء القوم هذا الرأى من الرافضة ودانوا به.
31- ثم قالوا بترتيب وجود الأبدال بعد هذا القطب، كما قاله الشيعة فى النقباء. حتى إنهم لما أسندوا لباس خرقة التصوف، ليجعلوه أصلاً لطريقتهم ونحلتهم، رفعوه إلى على رضى الله عنه، وهو من هذا المعنى أيضاً. وإلا فعلي، رضى الله عنه، لم يختص من بين الصحابة بنحلة ولا طريقة فى لباس ولا حال. بل كان أبو بكر وعمر رضى الله عنهما، أزهد الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثرهم عبادة. ولم يختص أحد منهم فى الدين بشيء يؤثر عنه على الخصوص، بل كان الصحابة كلهم أسوة فى الدين والزهد والمجاهدة ، تشهد بذلك سيرهم وأخبارهم. نعم إن الشيعة يخيلون بما ينقلون من ذلك اختصاص على بالفضائل دون من سواه من الصحابة ذهاباً مع عقائد التشيع المعروفة لهم.
32- والذى يظهر أن المتصوفة بالعراق، لما ظهرت الإسماعيلية من الشيعة، وظهر كلامهم فى الإمامة وما يرجع إليها ما هو معروف، فاقتبسوا من ذلك الموازنة بين الظاهر والباطن وجعلوا الإمامة لسياسة الخلق فى الانقياد إلى الشرع، وأفردوه بذلك أن لا يقع اختلاف كما تقرر فى الشرع. ثم جعلوا القطب لتعليم المعرفة بالله لأنه رأس العارفين، وأفردوه بذلك تشبيهاً بالإمام فى الظاهر، وأن يكون على وزانه فى الباطن وسموه قطباً لمدار المعرفة عليه، وجعلوا الأبدال كالنقباء مبالغة فى التشبيه. فتأمل ذلك.
33- يشهد بذلك كلام هؤلاء المتصوفة فى أمر الفاطمي، وما شحنوا به كتبهم فى ذلك، مما ليس لسلف المتصوفة فيه كلام بنفى أو إثبات، وإنما هو مأخوذ من كلام الشيعة والرافضة ومذاهبهم فى كتبهم. والله يهدى إلى الحق.
34- تذييل: وقد رأيت أن أجلب هنا فصلاً من كلام شيخنا العارف، كبير الأولياء بالأندلس، أبى مهدى عيسى بن الزيات، كان يقع له أكثر الأوقات على أبيات الهروى التى وقعت له فى كتاب المقامات توهم القول بالوحدة المطلقة أو يكاد يصرح بها وهى قوله:
ما وحد الواحد من واحد ... إذ كل من وحده جاحد
توحيد من ينطق عن نعته ... تثنية أبطلها الواحد
توحيده إياه توحيده ... ونعت من ينعته لاحِد
35- فيقول رحمه الله على سبيل العذر عنه: استشكل الناس إطلاق لفظ الجحود على كل من وحد الواحد ولفظ الإلحاد على من نعته ووصفه. واستبشعوا هذه الأبيات وحملوا قائلها على الكفر واستخفوه. ونحن نقول على رأى هذه الطائفة أن معنى التوحيد عندهم انتفاء عين الحدوث بثبوت عين القدم وأن الوجود كله حقيقة واحدة وآنية واحدة. وقد قال أبو سعيد الحراز من كبار القوم: الحق عين ما ظهر وعين ما بطن. ويرون أن وقوع التعدد فى تلك الحقيقة وجود الاثنينية. وهم باعتبار حضرات الحس بمنزلة صور الضلال والصدا والمرأى. وأن كل ما سوى عين القدم، إذا استتبع فهو عدم. وهذا معنى: ((كان الله، ولا شيء معه، وهو الآن على ما هو عليه كان)) عندهم . ومعنى قول لبيد الذى صدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم فى قوله: " ألا كل شيء، ما خلا الله، باطل " . قالوا فمن وحد ونعت، فقد قال بموجِد محدِث هو نفسه ، وتوحيد محدَث هو فعله، موجد قديم، هو معبود. وقد تقدم معنى التوحيد انتفاء عين الحدوث، وعين الحدوث الآن ثابتة بل متعددة، والتوحيد مجحود، والدعوى كاذبة. كمن يقول لغيره، وهما معاً فى بيت واحد: ليس فى البيت غيرك! فيقول الآخر بلسان حاله: " لا يصح هذا إلا لو عدمت أنت " !...
36- وقد قال بعض المحققين فى قولهم: خلق الله الزمان، هذه ألفاظ تناقض أصولها، لأن خلق الزمان متقدم على الزمان، وهو فعل لا بد من وقوعه فى الزمان، وإنما حمل ذلك ضيق العبارة عن الحقائق وعجز اللغات عن تأدية الحق فيها وبها. فإذ تحقق أن الموجد هو الموحد، وعدم ما سواه جملة، صح التوحيد حقيقة. وهذا معنى قولهم: " لا يعرف الله إلا الله " . ولا حرج على من وحد الحق مع بقاء الرسوم والآثار، وإنما هو من باب: " حسنات الأبرار سيئات المقربين " . لأن ذلك لازم التقييد والعبودية والشفعية. ومن ترقى إلى مقام الجمع كان فى حقه نقصاً، مع علمه بمرتبته، وأنه تلبيس تستلزمه العبودية ويرفعه الشهود، ويطهر من دنس حدوثه عين الجمع.
37- وأعرق الأصناف فى هذا الزعم القائلون بالوحدة المطلقة. ومدار المعرفة بكل اعتبار على الانتهاء إلى الواحد. وإنما صدر هذا القول من الناظم على سبيل التحريض والتنبيه والتفطين، لمقام أعلى، ترتفع فيه الشفعية ويحصل التوحيد المطلق، عيناً لا خطاباً وعبارة . فمن سلم استراح، ومن نازعته حقيقته أنس بقوله: ((كنت سمعه وبصره)).
38- وإذا عرفت المعانى لا مشاحة فى الألفاظ. والذى يفيده هذا كله تحقق أمر فوق هذا الطور، لا نطق فيه ولا خبر عنه. وهذا المقدار من الإشارة كاف. والتعلق فى مثل هذا حجاب، وهو الذى أوقع فى المقالات المعروفة " . انتهى كلام الشيخ أبى مهدى الزيات، ونقلته من كتاب الوزير ابن الخطيب الذى ألفه فى المحبة، وسماه التعريف بالحب الشريف. وقد سمعته من شيخنا أبى مهدى مراراً إلا أنى رأيت رسوم الكتاب أوعى له، لطول عهدى به. والله الموفق.
39- ثم إن كثيراً من الفقهاء وأهل الفتيا، انتدبوا للرد على هؤلاء المتأخرين فى هذه المقالات وأمثالها، وشملوا بالنكير سائر ما وقع لهم فى الطريقة. والحق أن كلامهم معهم فيه تفصيل، فإن كلامهم فى أربعة مواضع:
40- أحدها : الكلام على المجاهدات وما يحصل من الأذواق والمواجد ومحاسبة النفس على الأعمال، لتحصل تلك الأذواق، التى تصير مقاماً ويترقى منه إلى غيره كما قلناه.
41- وثانيها : الكلام فى الكشف والحقيقة المدركة من عالم الغيب، مثل الصفات الربانية والعرش والكرسى والملائكة والوحى والنبوة والروح وحقائق كل موجود غائب أو شاهد، وتركيب الأكوان فى صدورها عن موجدها ومكونها كمامر.
42- وثالثها : التصرفات فى العوالم والأكوان بأنواع الكرامات.
43- ورابعها : ألفاظ موهمة الظاهر صدرت من الكثير من أئمة القوم، يعبرون عنها فى اصطلاحهم بالشطحات، تستشكل ظواهرها، فمنكر ومحسن ومتأول.
44- فأما الكلام فى المجاهدات والمقامات، وما يحصل من الأذواق والمواجد فى نتائجها، ومحاسبة النفس على التقصير فى أسبابها، فأمر لا مدفع فيه لأحد، وأذواقهم فيه صحيحة، والتحقق بها هو عين السعادة.
45- وأما الكلام فى كرامات القوم وإخبارهم بالمغيبات وتصرفهم فى الكائنات، فأمر صحيح غير منكر. وإن مال بعض العلماء إلى إنكارها فليس ذلك من الحق. وما احتج به الأستاذ أبو إسحاق الأسفراينى من أئمة الأشعرية على إنكارها، لالتباسها بالمعجزة، فقد فرق المحققون من أهل السنة بينهما بالتحدي، وهو دعوى وقوع المعجزة على وفق ما جاء به. قالوا: ثم إن وقوعها على وفق دعوى الكاذب غير مقدور، لأن دلالة المعجزة على الصدق عقلية، فإن صفة نفسها التصديق. فلو وقعت مع الكاذب لتبدلت صفة نفسها وهو محال. هذا مع أن الوجود شاهد بوقوع الكثير من هذه الكرامات، وإنكارها نوع مكابر. وقد وقع للصحابة وأكابر السلف كثير من ذلك، وهو معلوم مشهور.
46- وأما الكلام فى الكشف وإعطاء حقائق العلويات وترتيب صدور الكائنات، فأكثر كلامهم فيه نوع من المتشابه، لما أنه وجدانى عندهم، وفاقد الوجدان عندهم بمعزل عن أذواقهم فيه. واللغات لا تعطى دلالة على مرادهم منه، لأنها لم توضع إلا للمتعارف، وأكثره من المحسوسات. فينبغى أن لا نتعرض لكلامهم فى ذلك، ونتركه فيما تركناه من المتشابه. ومن رزقه الله فهم شيء من هذه الكلمات، على الوجه الموافق لظاهر الشريعة، فأكرم بها سعادة.
47- وأما الألفاظ الموهمة التى يعبرون عنها بالشطحات، ويؤاخذهم بها أهل الشرع، فاعلم أن الإنصاف فى شأن القوم أنهم أهل غيبة عن الحس، والواردات تملكهم حتى ينطقوا عنها بما لا يقصدونه، وصاحب الغيبة غير مخاطب، والمجبور معذور. فمن علم منهم فضله واقتداؤه، حمل على القصد الجميل من هذا وأمثاله. وإن العبارة عن المواجد صعبة لفقدان الوضع لها، كما وقع لأبى يزيد البسطامى وأمثاله. ومن لم يعلم فضله ولا اشتهر، فمؤاخذ بما صدر عنه من ذلك، إذا لم يتبين لنا ما يحملنا على تأويل كلامه. وأما من تكلم بمثلها، وهو حاضر فى حسه، ولم يملكه الحال، فمؤاخذ أيضاً. ولهذا أفتى الفقهاء وأكابر المتصوفة بقتل الحلاج، لأنه تكلم فى حضور، وهو مالك لحاله. والله أعلم.
48- وسلف المتصوفة من أهل الرسالة أعلام الملة الذين أشرنا إليهم من قبل، لم يكن لهم حرص على كشف الحجاب، ولا هذا النوع من الإدراك، إنما همهم الاتباع والاقتداء ما استطاعوا. ومن عرض له شيء من ذلك أعرض عنه ولم يحفل به، بل يفرون منه ويرون أنه من العوائق والمحن، وأنه إدراك من إدراكات النفس مخلوق حادث، وأن الموجودات لا تنحصر فى مدارك الإنسان. وعلم الله أوسع وخلقه أكبر، وشريعته بالهداية أملك، فلم ينطقوا بشيء مما يدركون. بل حظروا الخوض فى ذلك ومنعوا من يكشف له الحجاب من أصحابهم من الخوض فيه والوقوف عنده، بل ويلتزمون طريقتهم كما كانوا فى عالم الحس قبل الكشف من الاتباع والاقتداء، ويأمرون أصحابهم بالتزامها. وهكذا ينبغى أن يكون حال المريد. والله الموفق للصواب. (انتهى من مقدمة ابن خلدون ، القاهرة : طبعة دار الشعب ، 439 - 449) .
1- هذا العلم من العلوم الشرعية الحادثة فى الملة.
2- وأصله أن طريقة هؤلاء القوم، لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم، طريقة الحق والهداية و أصلها العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى، والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها، والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه، والانفراد عن الخلق فى الخلوة للعبادة، وكان ذلك عاماً فى الصحابة والسلف.
3- فلما فشا الإقبال على الدنيا فى القرن الثانى وما بعده، وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا، اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية والمتصوفة. وقال القشيرى رحمه الله: ((ولا يشهد لهذا الاسم اشتقاق من جهة العربية ولا قياس. والظاهر أنه لقب. ومن قال: اشتقاقه من الصفاء، أو من الصفة، فبعيد من جهة القياس اللغوي)) ، قال: ((وكذلك من الصوف لأنهم لم يختصوا بلبسه)) .قلت : والأظهر أن قيل بالاشتقاق أنه من الصوف، وهم فى الغالب مختصون بلبسه، لما كانوا عليه من مخالفة الناس فى لبس فاخر الثياب إلى لبس الصوف.
4- فلما اختص هؤلاء بمذهب الزهد والانفراد عن الخلق والإقبال على العبادة، اختصوا بمآخذ مدركة لهم، وذلك أن الإنسان بما هو إنسان إنما يتميز عن سائر الحيوان بالإدراك، وإدراكه نوعان: إدراك للعلوم والمعارف من اليقين والظن والشك والوهم، وإدراك للأحوال القائمة من الفرح والحزن والقبض والبسط والرضا والغضب والصبر والشكر، وأمثال ذلك. فالروح العاقل والمتصرف فى البدن تنشأ من إدراكات وإرادات وأحوال، وهى التى يتميز بها الإنسان. وبعضها ينشأ من بعض، كما ينشأ العلم عن الأدلة، والفرح والحزن عن إدراك المؤلم أو المتلذذ به، والنشاط عن الحمام، والكسل عن الإعياء.
5- وكذلك المريد فى مجاهدته وعبادته، لا بد وأن ينشأ له عن كل مجاهدة حال نتيجة تلك المجاهدة. وتلك الحالة إما أن تكون نوع عبادة، فترسخ وتصير مقاماً للمريد، وإما أن لا تكون عبادة، وإنما تكون صفة حاصلة للنفس. من حزن أو سرور أو نشاط أو كسل أو غير ذلك من المقامات. ولا يزال المريد يترقى من مقام إلى مقام، إلى أن ينتهى إلى التوحيد والمعرفة التى هى الغاية المطلوبة للسعادة. قال صلى الله عليه وسلم: " من مات يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة " .
6- فالمريد لا بد له من الترقى فى هذه الأطوار، وأصلها كلها الطاعة والإخلاص، ويتقدمها الإيمان ويصاحبها، وتنشأ عنها الأحوال والصفات نتائج وثمرات. ثم تنشأ عنها أخرى وأخرى إلى مقام التوحيد والعرفان. وإذا وقع تقصير فى النتيجة أو خلل فنعلم أنه إنما أتى من قبل التقصير فى الذى قبله. وكذلك فى الخواطر النفسانية والواردات القلبية. فلذا يحتاج المريد إلى محاسبة نفسه فى سائر أعماله، وينظر فى حقائقها، لأن حصول النتائج عن الأعمال ضرورى وقصورها من الخلل فيها كذلك. والمريد يجد ذلك بذوقه ويحاسب نفسه على أسبابه. ولا يشاركهم فى ذلك إلا القليل من الناس، لأن الغفلة عن هذا كأنها شاملة.
7- وغاية أهل العبادات، إذا لم ينتهوا إلى هذا النوع، أنهم يأتون بالطاعات مخلصة من نظر الفقه فى الأجزاء والامتثال. وهؤلاء يبحثون عن نتائجها بالأذواق والمواجد، ليطلعوا على أنها خالصة من التقصير أولاً، فظهر أن أصل طريقتهم كلها محاسبة النفس على الأفعال والتروك، والكلام فى هذه الأذواق والمواجد التى تحصل عن المجاهدات، ثم تستقر للمريد مقاماً، ويترقى منها إلى غيرها.
8- ثم لهم مع ذلك آداب مخصوصة بهم واصطلاحات فى ألفاظ تدور بينهم، إذ الأوضاع اللغوية إنما هى للمعانى المتعارفة. فإذا عرض من المعانى ما هو غير متعارف، اصطلحنا عن التعبير عنه بلفظ يتيسر فهمه منه. فلهذا اختص هؤلاء بهذا النوع من العلم الذى ليس لواحد غيرهم من أهل الشريعة الكلام فيه.
9- وصار علم الشريعة على صنفين: صنف مخصوص بالفقهاء وأهل الفتيا، وهى الأحكام العامة فى العبادات والعادات والمعاملات، وصنف مخصوص بالقوم فى القيام بهذه المجاهدة ومحاسبة النفس عليها، والكلام فى الأذواق والمواجد العارضة فى طريقها، وكيفية الترقى منها من فوق إلى فوق، وشرح الاصطلاحات التى تدور بينهم فى ذلك.
10- فلما كتبت العلوم ودونت، وألف الفقهاء فى الفقه وأصوله والكلام والتفسير وغير ذلك، كتب رجال من أهل هذه الطريقة فى طريقتهم. فمنهم من كتب فى الورع ومحاسبة النفس على الاقتداء فى الأخذ والترك، كما فعله المحاسبى فى كتاب الرعاية له، ومنهم من كتب فى آداب الطريقة وأذواق أهلها ومواجدهم فى الأحوال كما فعله القشيرى فى كتاب الرسالة، والسهروردى فى كتاب عوارف المعارف وأمثالهم. وجمع الغزالى رحمه الله بين الأمرين فى كتاب الإحياء، فدون فيه أحكام الورع والاقتداء، ثم بين آداب القوم وسننهم وشرح اصطلاحاتهم فى عباراتهم.
11- وصار علم التصوف فى الملة علما مدوناً، بعد أن كانت الطريقة عبادة فقط وكانت أحكامها إنما تتلقى من صدور الرجال، كما وقع فى سائر العلوم التى دونت بالكتاب من التفسير والحديث والفقه والأصول وغير ذلك.
12- ثم إن هذه المجاهدة والخلوة والذكر يتبعها غالباً كشف حجاب الحس، والاطلاع على عوالم من أمر الله، ليس لصاحب الحس إدراك شيء منها، والروح من تلك العوالم. وسبب هذا الكشف أن الروح إذا رجع عن الحس الظاهر إلى الباطن ضعفت أحوال الحس، وقويت أحوال الروح، وغلب سلطانه وتجدد نشؤه، وأعان على ذلك الذكر، فإنه كالغذاء لتنمية الروح، ولا يزال فى نمو وتزيد، إلى أن يصير شهوداً بعد أن كان علماً. ويكشف حجاب الحس، ويتم وجود النفس الذى لها من ذاتها، وهو عين الإدراك. فيتعرض حينئذ للمواهب الربانية والعلوم المدنية والفتح الإلهي، وتقرب ذاته فى تحقيق حقيقتها من الأفق الأعلى، أفق الملائكة. وهذا الكشف كثيراً ما يعرض لأهل المجاهدة فيدركون من حقائق الوجود ما لا يدرك سواهم. وكذلك يدركون كثيراً من الواقعات قبل وقوعها ويتصرفون بهممهم وقوى نفوسهم فى الموجودات السفلية، وتصير طوع إرادتهم.
13- فالعظماء منهم لا يعتبرون هذا الكشف ولا يتصرفون، ولا يخبرون عن حقيقة شيء لم يؤمروا بالتكلم فيه، بل يعدون ما يقع لهم من ذلك محنة، ويتعوذون منه إذا هاجمهم.
14- وقد كان الصحابة رضى الله عنهم على مثل هذه المجاهدة، وكان حظهم من هذه الكرامات أوفر الحظوظ، لكنهم لم يقع لهم بها عناية. وفى فضائل أبى بكر وعمر وعثمان وعلى رضى الله عنهم كثير منها. وتبعهم فى ذلك أهل الطريقة، ممن اشتملت رسالة القشيرى على ذكرهم، ومن تبع طريقتهم من بعدهم.
15- ثم إن قوماً من المتأخرين انصرفت عنايتهم إلى كشف الحجاب والكلام فى المدارك التى وراءه، واختلفت طرق الرياضة عنهم فى ذلك، باختلاف تعليمهم فى إماتة القوى الحسية وتغذية الروح العاقل بالذكر، حتى يحصل للنفس إدراكها الذى لها من ذاتها بتمام نشوتها وتغذيتها. فإذا حصل ذلك زعموا أن الوجود قد انحصر فى مداركها حينئذ، وأنهم كشفوا ذوات الوجود وتصوروا حقائقها كلها من العرش إلى الطش. هكذا قال الغزالى رحمه الله فى كتاب الإحياء بعد أن ذكر صورة الرياضة.
16- ثم إن هذا الكشف لا يكون صحيحاً كاملاً عندهم، إلا إذا كان ناشئاً عن الاستقامة، لأن الكشف قد يحصل لصاحب الجوع والخلوة، وإن لم يكن هناك استقامة كالسحرة وغيرهم من المرتاضين. وليس مرادنا إلا الكشف الناشىء عن الاستقامة. ومثاله أن المرآة الصقيلة إذا كانت محدبة أو مقعرة، وحوذى بها جهة المرئي، فإنه يتشكل فيه معوجاً على غير صورته. وإن كانت مسطحة تشكل فيها المرئى صحيحاً. فالاستقامة للنفس، كالانبساط للمرآة، فيما ينطبع فيها من الأحوال.
17- ولما عنى المتأخرون بهذا النوع من الكشف، تكلموا فى حقائق الموجودات العلوية والسفلية، وحقائق الملك والروح والعرش والكرسى وأمثال ذلك، وقصرت مدارك من لم يشاركهم فى طريقهم عن فهم أذواقهم ومواجدهم فى ذلك. وأهل الفتيا بين منكر عليهم ومسلم لهم. وليس البرهان والدليل بنافع فى هذه الطريق، رداً وقبولاً، إذ هى من قبيل الوجدانيات.
18- تفصيل وتحقيق: يقع كثيراً فى كلام أهل العقائد، من علماء الحديث والفقه أن الله تعالى مباين لمخلوقاته. ويقع للمتكلمين أنه لا مباين ولا متصل. ويقع للفلاسفة أنه لا داخل العالم ولا خارجه. ويقع للمتأخرين من المتصوفة أنه متحد بالمخلوقات: إما بمعنى الحلول فيها، أو بمعنى أنه هو عينها، وليس هناك غيره جملة ولا تفصيلاً. فلنبين تفصيل هذه المذاهب ونشرح حقيقة كل واحد منها، حتى تتضح معانيها فنقول، إن المباينة تقال لمعنيين:
19- أحدهما المباينة فى الحيز والجهة، ويقابله الاتصال. وتشعر هذه المقابلة على هذه التقيد بالمكان: إما صريحاً، وهو تجسيم، أو لزوماً وهو تشبيه من قبيل القول بالجهة. وقد نقل مثله عن بعض علماء السلف من التصريح بهذه المباينة، فيحتمل غير هذا المعنى. من أجل ذلك أنكر المتكلمون هذه المباينة وقالوا: لا يقال فى البارىء أنه مباين مخلوقاته، ولا متصل بها، لأن ذلك إنما يكون للمتحيزات. وما يقال من أن المحل لا يخلو عن الاتصاف بالمعنى وضده، فهو مشروط بصحة الاتصاف أولاً، وأما مع امتناعه فلا، بل يجوز الخلو عن المعنى وضده، كما يقال فى الجماد، لا عالم ولا جاهل ولا قادر ولا عاجز ولا كاتب ولا أمي. وصحة الاتصاف بهذه المباينة مشروط بالحصول فى الجهة على ما تقرر من مدلولها. والبارىء سبحانه منزه عن ذلك. ذكره ابن التلمسانى فى شرح اللمع لإمام الحرمين وقال: " ولا يقال فى البارىء مباين للعالم ولا متصل به، ولا داخل فيه ولا خارج عنه. وهو معنى ما يقوله الفلاسفة أنه لا داخل العالم ولا خارجه، بناء على وجود الجواهر غير المتحيزة. وأنكرها المتكلمون لما يلزم من مساواتها للبارىء فى أخص الصفات، وهو مبسوط فى علم الكلام.
20- وأما المعنى الآخر للمباينة، فهو المغايرة والمخالفة، فيقال: البارىء مباين لمخلوقاته فى ذاته وهويته ووجوده وصفاته. ويقابله الاتحاد والامتزاج والاختلاط. وهذه المباينة هى مذهب أهل الحق كلهم من جمهور السلف وعلماء الشرائع والمتكلمين والمتصوفة الأقدمين كأهل الرسالة ومن نحا منحاهم.
21- وذهب جماعة من المتصوفة المتأخرين الذين صيروا المدارك الوجدانية علمية نظرية، إلى أن البارىء تعالى متحد بمخلوقاته فى هويته ووجوده وصفاته. وربما زعموا أنه مذهب الفلاسفة قبل أرسطو، مثل أفلاطون وسقراط، وهو الذى يعينه المتكلمون حيث ينقلونه فى علم الكلام عن المتصوفة ويحاولون الرد عليه لأنه ذاتان تنتفى إحداهما، أو تندرج اندراج الجزء، فإن تلك مغايرة صريحة، ولا يقولون بذلك. وهذا الاتحاد هو الحلول الذى تدعيه النصارى فى المسيح عليه السلام، وهو أغرب لأنه حلول قديم فى محدث أو اتحاده به. وهو أيضاً عين ما تقوله الإمامية من الشيعة فى الأمامية.
22- وتقرير هذا الاتحاد فى كلامهم على طريقين: الأولى: أن ذات القديم كائنة فى المحدثات محسوسها ومعقولها، متحدة بها فى المتصورين، وهى كلها مظاهر له، وهو القائم عليها، أى المقوم لوجودها، بمعنى لولاه كانت عدماً وهو رأى أهل الحلول.
23- الثانية: طريق أهل الوحدة المطلقة وكأنهم استشعروا من تقرير أهل الحلول الغيرية المنافية لمعقول الاتحاد، فنفوها بين القديم وبين المخلوقات فى الذات والوجود والصفات. وغالطوا فى غيرية المظاهر المدركة بالحس والعقل بأن ذلك من المدارك البشرية، وهى أوهام. ولا يريدون الوهم الذى هو قسيم العلم والظن والشك، وإنما يريدون أنها كلها عدم فى الحقيقة، وجود فى المدرك البشرى فقط. ولا وجود بالحقيقة إلا للقديم، لا فى الظاهر ولا فى الباطن كما نقرره بعد، بحسب الإمكان. والتعويل فى تعقل ذلك على النظر والاستدلال، كما فى المدارك البشرية، غير مفيد، لأن ذلك إنما ينقل من المدارك الملكية، وإنما هى حاصلة للأنبياء بالفطرة ومن بعدهم للأولياء بهدايتهم. وقصد من يقصد الحصول عليها بالطريقة العلمية ضلال.
24- وربما قصد بعض المصنفين بيان مذهبهم فى كشف الوجود وترتيب حقائقه، فأتى بالأغمض فالأغمض، بالنسبة إلى أهل النظر والاصطلاحات والعلوم. كما فعل الفرغاني، شارح قصيدة ابن الفارض، فى الديباجة التى كتبها فى صدر ذلك الشرح، فإنه ذكر فى صدور الوجود عن الفاعل وترتيبه، أن الوجود كله صادر عن صفة الوحدانية، التى هى مظهر الأحدية، وهما معاً صادران عن الذات الكريمة التى هى عين الوحدة لا غير. ويسمون هذا الصدور بالتجلي. وأول مراتب التجليات عندهم تجلى الذات، على نفسه، وهو يتضمن الكمال بإفاضة الإيجاد والظهور، لقوله فى الحديث الذى يتناقلونه: " كنت كنزاً مخفياً، فأحببت أن أعرف، فخلقت الخلق ليعرفونى " . وهذا الكمال فى الإيجاد المتنزل فى الوجود وتفصيل الحقائق، وهو عندهم عالم المعانى والحضرة الكمالية والحقيقة المحمدية، وفيها حقائق الصفات واللوح والقلم وحقائق الأنبياء والرسل أجمعين، والكمل من أهل الملة المحمدية. وهذا كله تفصيل الحقيقة المحمدية. ويصدر عن هذه الحقائق حقائق أخرى فى الحضرة الهبائية، وهى مرتبة المثال، ثم عنها العرش، ثم الكرسي، ثم الأفلاك، ثم عالم العناصر، ثم عالم التركيب. هذا فى عالم الرتق،، فإذا تجلت، فهى فى عالم الفتق. انتهى.
25- ويسمى هذا المذهب مذهب أهل التجلى والمظاهر والحضرات، وهوكلام لا يقدر أهل النظر على تحصيل مقتضاه لغموضه وانغلاقه، وبعد ما بين كلام صاحب المشاهدة والوجدان وصاحب الدليل. وربما أنكر بظاهر الشرع هذا الترتيب فإنه لا يعرف فى شيء من مناحيه.
26- وكذلك ذهب آخرون منهم إلى القول بالوحدة المطلقة، وهو رأى أغرب من الأول فى تعقله وتفاريعه، يزعمون فيه أن الوجود له قوى فى تفاصيله، بها كانت حقائق الموجودات وصورها وموادها. والعناصر إنما كانت بما فيها من القوى، وكذلك مادتها لها فى نفسها قوة بها كان وجودها. ثم إن المركبات فيها تلك القوى متضمنة فى القوة التى كان بها التركيب. كالقوة المعدنية فيها قوى العناصر بهيولاها، وزيادة القوة المعدنية، ثم القوة الحيوانية تتضمن القوة المعدنية وزيادة قوتها فى نفسها، وكذا القوة الإنسانية مع الحيوانية، ثم الفلك يتضمن القوة الإنسانية وزيادة. وكذا الذوات الروحانية والقوة الجامعة للكل من غير تفصيل، هى القوة الإلهية التى انبثت فى جميع الموجودات كلية وجزئية، وجمعتها وأحاطت بها من كل وجه، لا من جهة الظهور ولا من جهة الخفاء ولا من جهة الصورة، ولا من جهة المادة، فالكل واحد وهو نفس الذات الإلهية، وهى فى الحقيقة واحدة بسيطة، والاعتبار هو المفضل لها، كالإنسانية مع الحيوانية. ألا ترى أنها مندرجة فيها وكائنة بكونها. فتارة يمثلونها بالجنس مع النوع، فى كل موجود كما ذكرناه، وتارة بالكل مع الجزء، على طريقة المثال. وهم فى هذا كله يفرون من التركيب والكثرة بوجه من الوجوه، وإنما أوجبها عندهم الوهم والخيال. والذى يظهر من كلام ابن دهقان فى تقرير هذا المذهب، أن حقيقة ما يقولونه فى الوحدة شبيه بما يقوله الحكماء فى الألوان، من أن وجودها مشروط بالضوء، فإذا عدم الضوء لم تكن الألوان موجودة بوجه.
27- وكذا عندهم الموجودات المحسوسة كلها مشروطة بوجود المدرك الحسي، بل والموجودات المعقولة والمتوهمة أيضاً مشروطة بوجود المدرك العقلي، فإذا الوجود المفصل كله مشروط بوجود المدرك البشري. فلو فرضنا عدم المدرك البشرى جملة لم يكن هناك تفصيل فى الوجود، بل هو بسيط واحد. فالحر والبرد، والصلابة واللين، بل والأرض والماء، والنار والسماء والكواكب، إنما وجدت لوجود الحواس المدركة لها، لما جعل فى المدرك من التفصيل، الذى ليس فى الموجود، وإنما هو فى المدارك فقط. فإذا فقدت المدارك المفصلة فلا تفصيل، إنما هو إدراك واحد، وهو أنا لا غيره. ويعتبرون ذلك بحال النائم، فإنه إذا نام وفقد الحس الظاهر، فقد كل محسوس، وهو فى تلك الحالة، إلا ما يفصله له الخيال. قالوا: فكذلك اليقظان إنما يعتبر تلك المدركات كلها على التفصيل بنوع مدركه البشري، ولو قدر فقد مدركه فقد التفصيل، وهذا هو معنى قولهم: الوهم، لا الوهم الذى هو من جملة المدارك البشرية.
28- هذا ملخص رأيهم على ما يفهم من كلام ابن دهقان، وهو فى غاية السقوط، لأنا نقطع بوجود البلد الذى نحن مسافرون إليه يقيناً مع غيبته عن أعيينا، وبوجود السماء المظلة والكواكب وسائر الأشياء الغائبة عنا. والإنسان قاطع بذلك، ولا يكابر أحد نفسه فى اليقين، مع أن المحققين من المتصوفة المتأخرين يقولون: إن المريد عند الكشف ربما يعرض له توهم هذه الوحدة، ويسمى ذلك عندهم مقام الجمع ثم يترقى عنه إلى التمييز بين الموجودات، ويعبرون عن ذلك بمقام الفرق، وهو مقام العارف المحقق. ولا بد للمريد عندهم من عقبة الجمع، وهى عقبة صعبة، لأنه يخشى على المريد من وقوفه عندها، فتخسر صفقته. فقد تبينت مراتب أهل هذه الطريقة.
29- ثم إن هؤلاء المتأخرين من المتصوفة المتكلمين فى الكشف وفيما وراء الحس، توغلوا فى ذلك، فذهب الكثير منهم إلى الحلول والوحدة كما أشرنا إليه، وملأوا الصحف منه، مثل الهروي، فى كتاب المقامات له، وغيره. وتبعهم ابن العربى وابن سبعين وتلميذهما ثم ابن العفيف وابن الفارض والنجم الإسرائيلى فى قصائدهم. وكان سلفهم مخالطين للإسماعيلية المتأخرين من الرافضة الدائنين أيضاً بالحلول وإلهية الأئمة، مذهباً لم يعرف لأولهم، فأشرب كل واحد من الفريقين مذهب الآخر. واختلط كلامهم وتشابهت عقائدهم. وظهر فى كلام المتصوفة القول بالقطب، ومعناه رأس العارفين. يزعمون أنه لا يمكن أن يساويه أحد فى مقامه فى المعرفة، حتى يقبضه الله. ثم يورث مقامه الآخر من أهل العرفان.
30- وقد أشار إلى ذلك ابن سينا فى كتاب الإشارات، فى فصول التصوف منها، فقال: " جل جناب الحق أن يكون شرعة لكل وارد، أو يطلع عليه إلا الواحد بعد الواحد " . وهذا كلام لا تقوم عليه حجة عقلية ولا دليل شرعي، وإنما هو من أنواع الخطابة، وهو بعينه ما تقوله الرافضة فى توارث الأئمة عندهم. فانظر كيف سرقت طباع هؤلاء القوم هذا الرأى من الرافضة ودانوا به.
31- ثم قالوا بترتيب وجود الأبدال بعد هذا القطب، كما قاله الشيعة فى النقباء. حتى إنهم لما أسندوا لباس خرقة التصوف، ليجعلوه أصلاً لطريقتهم ونحلتهم، رفعوه إلى على رضى الله عنه، وهو من هذا المعنى أيضاً. وإلا فعلي، رضى الله عنه، لم يختص من بين الصحابة بنحلة ولا طريقة فى لباس ولا حال. بل كان أبو بكر وعمر رضى الله عنهما، أزهد الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثرهم عبادة. ولم يختص أحد منهم فى الدين بشيء يؤثر عنه على الخصوص، بل كان الصحابة كلهم أسوة فى الدين والزهد والمجاهدة ، تشهد بذلك سيرهم وأخبارهم. نعم إن الشيعة يخيلون بما ينقلون من ذلك اختصاص على بالفضائل دون من سواه من الصحابة ذهاباً مع عقائد التشيع المعروفة لهم.
32- والذى يظهر أن المتصوفة بالعراق، لما ظهرت الإسماعيلية من الشيعة، وظهر كلامهم فى الإمامة وما يرجع إليها ما هو معروف، فاقتبسوا من ذلك الموازنة بين الظاهر والباطن وجعلوا الإمامة لسياسة الخلق فى الانقياد إلى الشرع، وأفردوه بذلك أن لا يقع اختلاف كما تقرر فى الشرع. ثم جعلوا القطب لتعليم المعرفة بالله لأنه رأس العارفين، وأفردوه بذلك تشبيهاً بالإمام فى الظاهر، وأن يكون على وزانه فى الباطن وسموه قطباً لمدار المعرفة عليه، وجعلوا الأبدال كالنقباء مبالغة فى التشبيه. فتأمل ذلك.
33- يشهد بذلك كلام هؤلاء المتصوفة فى أمر الفاطمي، وما شحنوا به كتبهم فى ذلك، مما ليس لسلف المتصوفة فيه كلام بنفى أو إثبات، وإنما هو مأخوذ من كلام الشيعة والرافضة ومذاهبهم فى كتبهم. والله يهدى إلى الحق.
34- تذييل: وقد رأيت أن أجلب هنا فصلاً من كلام شيخنا العارف، كبير الأولياء بالأندلس، أبى مهدى عيسى بن الزيات، كان يقع له أكثر الأوقات على أبيات الهروى التى وقعت له فى كتاب المقامات توهم القول بالوحدة المطلقة أو يكاد يصرح بها وهى قوله:
ما وحد الواحد من واحد ... إذ كل من وحده جاحد
توحيد من ينطق عن نعته ... تثنية أبطلها الواحد
توحيده إياه توحيده ... ونعت من ينعته لاحِد
35- فيقول رحمه الله على سبيل العذر عنه: استشكل الناس إطلاق لفظ الجحود على كل من وحد الواحد ولفظ الإلحاد على من نعته ووصفه. واستبشعوا هذه الأبيات وحملوا قائلها على الكفر واستخفوه. ونحن نقول على رأى هذه الطائفة أن معنى التوحيد عندهم انتفاء عين الحدوث بثبوت عين القدم وأن الوجود كله حقيقة واحدة وآنية واحدة. وقد قال أبو سعيد الحراز من كبار القوم: الحق عين ما ظهر وعين ما بطن. ويرون أن وقوع التعدد فى تلك الحقيقة وجود الاثنينية. وهم باعتبار حضرات الحس بمنزلة صور الضلال والصدا والمرأى. وأن كل ما سوى عين القدم، إذا استتبع فهو عدم. وهذا معنى: ((كان الله، ولا شيء معه، وهو الآن على ما هو عليه كان)) عندهم . ومعنى قول لبيد الذى صدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم فى قوله: " ألا كل شيء، ما خلا الله، باطل " . قالوا فمن وحد ونعت، فقد قال بموجِد محدِث هو نفسه ، وتوحيد محدَث هو فعله، موجد قديم، هو معبود. وقد تقدم معنى التوحيد انتفاء عين الحدوث، وعين الحدوث الآن ثابتة بل متعددة، والتوحيد مجحود، والدعوى كاذبة. كمن يقول لغيره، وهما معاً فى بيت واحد: ليس فى البيت غيرك! فيقول الآخر بلسان حاله: " لا يصح هذا إلا لو عدمت أنت " !...
36- وقد قال بعض المحققين فى قولهم: خلق الله الزمان، هذه ألفاظ تناقض أصولها، لأن خلق الزمان متقدم على الزمان، وهو فعل لا بد من وقوعه فى الزمان، وإنما حمل ذلك ضيق العبارة عن الحقائق وعجز اللغات عن تأدية الحق فيها وبها. فإذ تحقق أن الموجد هو الموحد، وعدم ما سواه جملة، صح التوحيد حقيقة. وهذا معنى قولهم: " لا يعرف الله إلا الله " . ولا حرج على من وحد الحق مع بقاء الرسوم والآثار، وإنما هو من باب: " حسنات الأبرار سيئات المقربين " . لأن ذلك لازم التقييد والعبودية والشفعية. ومن ترقى إلى مقام الجمع كان فى حقه نقصاً، مع علمه بمرتبته، وأنه تلبيس تستلزمه العبودية ويرفعه الشهود، ويطهر من دنس حدوثه عين الجمع.
37- وأعرق الأصناف فى هذا الزعم القائلون بالوحدة المطلقة. ومدار المعرفة بكل اعتبار على الانتهاء إلى الواحد. وإنما صدر هذا القول من الناظم على سبيل التحريض والتنبيه والتفطين، لمقام أعلى، ترتفع فيه الشفعية ويحصل التوحيد المطلق، عيناً لا خطاباً وعبارة . فمن سلم استراح، ومن نازعته حقيقته أنس بقوله: ((كنت سمعه وبصره)).
38- وإذا عرفت المعانى لا مشاحة فى الألفاظ. والذى يفيده هذا كله تحقق أمر فوق هذا الطور، لا نطق فيه ولا خبر عنه. وهذا المقدار من الإشارة كاف. والتعلق فى مثل هذا حجاب، وهو الذى أوقع فى المقالات المعروفة " . انتهى كلام الشيخ أبى مهدى الزيات، ونقلته من كتاب الوزير ابن الخطيب الذى ألفه فى المحبة، وسماه التعريف بالحب الشريف. وقد سمعته من شيخنا أبى مهدى مراراً إلا أنى رأيت رسوم الكتاب أوعى له، لطول عهدى به. والله الموفق.
39- ثم إن كثيراً من الفقهاء وأهل الفتيا، انتدبوا للرد على هؤلاء المتأخرين فى هذه المقالات وأمثالها، وشملوا بالنكير سائر ما وقع لهم فى الطريقة. والحق أن كلامهم معهم فيه تفصيل، فإن كلامهم فى أربعة مواضع:
40- أحدها : الكلام على المجاهدات وما يحصل من الأذواق والمواجد ومحاسبة النفس على الأعمال، لتحصل تلك الأذواق، التى تصير مقاماً ويترقى منه إلى غيره كما قلناه.
41- وثانيها : الكلام فى الكشف والحقيقة المدركة من عالم الغيب، مثل الصفات الربانية والعرش والكرسى والملائكة والوحى والنبوة والروح وحقائق كل موجود غائب أو شاهد، وتركيب الأكوان فى صدورها عن موجدها ومكونها كمامر.
42- وثالثها : التصرفات فى العوالم والأكوان بأنواع الكرامات.
43- ورابعها : ألفاظ موهمة الظاهر صدرت من الكثير من أئمة القوم، يعبرون عنها فى اصطلاحهم بالشطحات، تستشكل ظواهرها، فمنكر ومحسن ومتأول.
44- فأما الكلام فى المجاهدات والمقامات، وما يحصل من الأذواق والمواجد فى نتائجها، ومحاسبة النفس على التقصير فى أسبابها، فأمر لا مدفع فيه لأحد، وأذواقهم فيه صحيحة، والتحقق بها هو عين السعادة.
45- وأما الكلام فى كرامات القوم وإخبارهم بالمغيبات وتصرفهم فى الكائنات، فأمر صحيح غير منكر. وإن مال بعض العلماء إلى إنكارها فليس ذلك من الحق. وما احتج به الأستاذ أبو إسحاق الأسفراينى من أئمة الأشعرية على إنكارها، لالتباسها بالمعجزة، فقد فرق المحققون من أهل السنة بينهما بالتحدي، وهو دعوى وقوع المعجزة على وفق ما جاء به. قالوا: ثم إن وقوعها على وفق دعوى الكاذب غير مقدور، لأن دلالة المعجزة على الصدق عقلية، فإن صفة نفسها التصديق. فلو وقعت مع الكاذب لتبدلت صفة نفسها وهو محال. هذا مع أن الوجود شاهد بوقوع الكثير من هذه الكرامات، وإنكارها نوع مكابر. وقد وقع للصحابة وأكابر السلف كثير من ذلك، وهو معلوم مشهور.
46- وأما الكلام فى الكشف وإعطاء حقائق العلويات وترتيب صدور الكائنات، فأكثر كلامهم فيه نوع من المتشابه، لما أنه وجدانى عندهم، وفاقد الوجدان عندهم بمعزل عن أذواقهم فيه. واللغات لا تعطى دلالة على مرادهم منه، لأنها لم توضع إلا للمتعارف، وأكثره من المحسوسات. فينبغى أن لا نتعرض لكلامهم فى ذلك، ونتركه فيما تركناه من المتشابه. ومن رزقه الله فهم شيء من هذه الكلمات، على الوجه الموافق لظاهر الشريعة، فأكرم بها سعادة.
47- وأما الألفاظ الموهمة التى يعبرون عنها بالشطحات، ويؤاخذهم بها أهل الشرع، فاعلم أن الإنصاف فى شأن القوم أنهم أهل غيبة عن الحس، والواردات تملكهم حتى ينطقوا عنها بما لا يقصدونه، وصاحب الغيبة غير مخاطب، والمجبور معذور. فمن علم منهم فضله واقتداؤه، حمل على القصد الجميل من هذا وأمثاله. وإن العبارة عن المواجد صعبة لفقدان الوضع لها، كما وقع لأبى يزيد البسطامى وأمثاله. ومن لم يعلم فضله ولا اشتهر، فمؤاخذ بما صدر عنه من ذلك، إذا لم يتبين لنا ما يحملنا على تأويل كلامه. وأما من تكلم بمثلها، وهو حاضر فى حسه، ولم يملكه الحال، فمؤاخذ أيضاً. ولهذا أفتى الفقهاء وأكابر المتصوفة بقتل الحلاج، لأنه تكلم فى حضور، وهو مالك لحاله. والله أعلم.
48- وسلف المتصوفة من أهل الرسالة أعلام الملة الذين أشرنا إليهم من قبل، لم يكن لهم حرص على كشف الحجاب، ولا هذا النوع من الإدراك، إنما همهم الاتباع والاقتداء ما استطاعوا. ومن عرض له شيء من ذلك أعرض عنه ولم يحفل به، بل يفرون منه ويرون أنه من العوائق والمحن، وأنه إدراك من إدراكات النفس مخلوق حادث، وأن الموجودات لا تنحصر فى مدارك الإنسان. وعلم الله أوسع وخلقه أكبر، وشريعته بالهداية أملك، فلم ينطقوا بشيء مما يدركون. بل حظروا الخوض فى ذلك ومنعوا من يكشف له الحجاب من أصحابهم من الخوض فيه والوقوف عنده، بل ويلتزمون طريقتهم كما كانوا فى عالم الحس قبل الكشف من الاتباع والاقتداء، ويأمرون أصحابهم بالتزامها. وهكذا ينبغى أن يكون حال المريد. والله الموفق للصواب. (انتهى من مقدمة ابن خلدون ، القاهرة : طبعة دار الشعب ، 439 - 449) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق