يقول الدكتور زيدان فى دراسته القيمة ((الطريق الصوفى))([1]) : إن موقف ابن تيمية من التصوف والصوفية يحتاج منا إلى الوقفة التالية :
كان تقى الدين ابن تيمية (المتوفى سنة 728 هـ) مفكرا قلقا جاء فى زمن الأزمة الكبرى ، أعنى اجتياح المغول للعالم الإسلامى ، وقد سجل له التاريخ جملة مواقف مشهودى ضد التتار بالسيف وبالقلم والمناظرة ضد الطوائف المنحرفة والفلاسفة والمناطقة والمتكلمين ...حتى إنه كاد يقضى حياته كلها فى محن ومعارك لا تهدأ . وفى ميدان التصوف نظر ابن تيمية إلى الإمام الجيلانى نظرة إكبار وتقدير ، وعنى بشرح واحد من أشهر مؤلفات الجيلانى (فتوح الغيب) ، فكان شرحه ذوقا طيبا للمعانى الصوفية التى تعرض لها الإمام الجيلانى ، وخلا شرح ابن تيمية من أى نقد أو اعتراض على هذه المعانى الصوفية ، بل نراه يدعو الإمام الجيلانى بلقب شيخ الإسلام ، وإذا وضعنا (ِشرح فتوح الغيب) بجانب بعض الرسائل المعروفة لابن تيمية كرسالتى الصوفية والفقراء ، وقاعدة فى المحبة ، لانتهى ذلك بنا أمام إمام ذائق لحقائق التصوف ، بل ومعترف بمكانة أهله وكراماتهم وصدق أحوالهم ، كما يظهر من رسالته المعجزات والكرامات . فما هذا الهجوم الذى شنه ابن تيمية على الصوفية فى مجموعة الرسائل والمسائل ، والفتاوى ، حيث جرح أقطاب التصوف تجريحا ما له مثيل ، فنراه يعكس اسم الشيخ من مشايخهم الكبار – العفيف التلمسانى – ليسميه ابن تيمية : الفاجر التلمسانى . وبرغم أن التلمسانى واحد من رجال مدرسة ابن عربى ، إلا أننا نرى ابن تيمية يخفف الهجوم على ابن عربى ، ويقول بأنه أقرب هذه الطائفة إلى الإسلام ، ثم يكيل الاتهامات لتلاميذه الذين لم يكتبوا غير سطر واحد مما كتبه شيخهم الأكبر .
وبعد ذلك فكيف الحال بابن تيمية إذا عرف أن كل الحقائق التى أشار إليها الصوفية الذين هاجمهم فى رسائله وفتاواه هى بعينها الحقائق التى أشار إليها الإمام الجيلانى حين عبر فى أشعاره ومقالاته الرمزية عن غايات الطريق الصوفى ومنتهاه .
إن موقف ابن تيمية المضطرب من التصوف والصوفية - وهو العالم الفقيه الجليل القدر – يمكن أن نفسره من عدة وجوه :
الوجه الأول : أن ابن تيمية كتب الهجوم وهو بعد فى سن الحمية والاندفاع المعرفى الذى انتقد فيه الفلاسفة والمناطقة والشيعة ، فضم إليهم الصوفية ، لكنه حين تقدم بعمره ، وذاق بعض المشارب الروحية التى يهتدى إليها العلماء ، ترفق فى القول ، وتعرف على بعض إشارات القوم الذوقية .
وبالوجه الثانى : فالمصطلح الصوفى قد ضلل ابن تيمية كما ضلل غيره من فقهاء الظاهر فراح يلقى سهامه اعتمادا على فهمه هو لدلالات المصطلحات الصوفية دون أن يتريث ليتكشف ما تحمله تلك الرموز والمصطلحات من دلالة رحبة ، ومن هنا نفهم كيف تسنى لابن تيمية أن ينتقد الشيخ الأكبر محيى الدين ابن عربى ، دون أن يحيط بمؤلفاته كلها ، هذه المؤلفات التى يقتضى إمعان قراءتها زمنا ، ويحتاج فهمها دهرا .
وبالوجه الأخير : فإن ابن تيمية لم يكن صاحب طريق ذوقى ، صحيح إنه صاحب جهد علمى لا ينكر واجتهاد فقهى لا يقارن ومدرسة سلفية واضحة المعالم ، لكنه مع ذلك كله لم يكن صاحب وجدانيات ومشارب ، فكان أن تعرف على بعض المعانى لبدايات الطريق الصوفى وعرف أصولها الشرعية ، فسر بذلك وامتدحه فى بعض الرسائل ، ثم توقف عند دقائق غايات هذا الطريق وسها عن أصولها فقال كلامه المر)) .
([1]) يوسف زيدان (الدكتور) ، الطريق الصوفى وفروع القادرية بمصر ، بيروت : دار الجيل ، ط 1 ، 1411 هـ / 1991 م ، ص 12 - 14.
ويمكن الاطلاع على هذه الدراسة القيمة للدكتور زيدان من خلال تحميلها من الرابط التالى :